استذكار رواد الصحافة والإعلام في أمريكا

بقلم د عضيد يوسف ميري،

تزامناً مع ذكرى مرورعشرون عاماً تقريباً على إصدار نشرة اخبار الكلدان (كالديان نيوز)، واستجابة لرغبات جيل من القراء الذين يتابعون المجلة ويرغبون في قراءة صفحات باللغة العربية، تقرر اضافة صفحة أو صفحتين باللغة العربية ضمن اعداد المستقبل، نأمل من خلالها تحفيز القراء والكتاب للتواصل معنا ورفدنا بمقالاتهم وإبداعاتهم الفكرية والقلمية.

وكبداية لهذه الانطلاقة التأريخية لابد أن ننظر إلى الوراء القريب والاحتفاء بالرواد الأوائل والصحف المهجرية الكلدانية التي نُشرت في ولاية ميشيغان والولايات المتحدة الأمريكية ولنستذكر مجموعة من المهاجرين العراقيين الكلدان الذين كانوا صحفيين وكتاب وشعراء وإعلاميين ونشارككم بدايات أعمالهم وهمومهم واهتماماتهم وإنجازاتهم في مجال الإعلام.

فبين الأعوام 1910 و1947 هاجر عدد قليل من الكلدان (معظمهم من العراق) إلى الولايات المتحدة، وكانوا جزءًا من عصر الهجرة الجماعية التي جلبت الملايين من جميع أنحاء العالم إلى أمريكا التي كانت حينذاك في أمس الحاجة إلى العمال من أجل دعم اقتصادها المتنامي. وكانت ديترويت تحظى بشعبية كبيرة بين مجموعات المهاجرين بسبب صناعة السيارات المتنامية ووجود مجتمع شرق أوسطي يتكون أساسًا من المهاجرين المسيحيين الذين أتوا من لبنان وسوريا.

وفي عام 1943، أدرجت مصادر واحصائيات الجالية وجود 908 كلدانيًا في منطقة ديترويت، وفي عام 1947، كان هناك 80 عائلة كلدانية تعيش داخل حدود مدينة ديترويت. وبحلول عام 1963، تضاعف هذا العدد ثلاث مرات ليصل إلى حوالي 3000 شخص. ثم هاجر عدد أكبر من المواطنين العراقيين إلى الولايات المتحدة بسبب أحوال العراق السياسية والتغييرات في قوانين الهجرة الأمريكية خلال منتصف الستينيات، وأصبح نمو الجالية الكلدانية الأمريكية في ديترويت أكثر دراماتيكية، -وارتفع هذا العدد تدريجياً إلى 45000 في عام 1986 - و75000 في عام 1992- و160000 في عام 2017 ووصل الى 200000 حالياً في ولاية ميشيغان.

يؤطر الكلدان والمسيحيون العراقيون علاقاتهم بوطنهم الأم بهويتهم وثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم وتراثهم، ويعلقون أهمية وقيمة كبيرة على هويتهم جنبًا إلى جنب مع إيمانهم المسيحي، وبناءٍ على ذلك استلزمت تحدياتهم وتجاربهم في البيئة الأمريكية الجديدة إعادة بناء أنفسهم وهوياتهم المجتمعية وتحديث نمط علاقاتهم بمجتمعهم الجديد.

وشكل التواصل مع الصحافة (الصحف والمجلات والكتب) والراديو والتلفزيون (ووسائل التواصل الاجتماعي لاحقًا) ضرورة من الضروريات الثقافية للجيل الأول من المهاجرين ومثلما كانوا قد تعودوا عليه في العراق. ومع تزايد أعداد المهاجرين العراقيين، ظهرت حاجة لمثقفي الشتات لإطلاق صحافتهم باللغة التي تعودوا عليها وحينها مرت الصحافة الجديدة بمراحل مخاطبة الجيل الأول الذي تحدث وفكر باللغة العربية فقط، عبوراً إلى الجيل الثاني الذي تحدث بمزيج شمل لغة أخرى، وصولا إلى جيل ولد في الولايات المتحدة لا يتقن سوى اللغة الإنجليزية.

كانت لغة الصحافة المهجرية المبكرة للجالية في الولايات المتحدة جزءاً من الصحافة العربية، وكانت ولادتها مع صدور (المشرق- 1949) للناشر حنا يتوما في ميشيغان، و(الإصلاح - 1954) في نيويورك للأب جميل ألفونس شوريز، الذي أسبغ عليها صفة “ الجريدة الوطنية الادبية السياسية” وتناولت الشؤون السياسية العربية في فترة منتصف الخمسينات من وجهة نظر المغتربين العرب في الولايات المتحدة. وصحيفة (العالم الجديد- 1962) للمحامي يوسف أنطون.

في عام 1968 نشر فيصل عربو (صوت المهاجر)، التي وصفت نفسها بأنها “الجريدة الرسمية للجالية العربية الأمريكية” وكانت مجانية وقصيرة العمر، نشرت 4 أعداد فقط (يونيو، يوليو، أغسطس وأكتوبر 1968). ثم أصدر فؤاد منّا جريدة (الهدف) عام 1970، تلاها صدور عدة صحف أخرى ومجلات تصدرها الكنائس والمنظمات والمؤسسات المحلية.

مرت صحافة الجالية المحلية منذ انطلاقها وعبر تاريخها الطويل بالعديد من التغيرات والصراعات التي كثيرا ما أدت إلى تدهور العمل الصحفي وضعف أداء رواد الإعلام نتيجة عوامل عدة منها سياسية، واقتصادية، ومالية، واجتماعية. وكانت غالبية المطبوعات مجانية أو تباع بسعر رخيص جدا وتميزت بطباعة رديئة بسبب نوعية الورق وعناوين جذابة وصور لأغلفة بألوان باهتة إلا أن القراء كانوا يعشقون قراءتها لدرجة الإدمان والاحتفاظ بنسخها في بيوتهم، هذه هي بكل بساطة كان ما موجود في عالم المطبوعات حينذاك.

وعلينا أن نفهم بأن محتوى الصحافة العراقية في المهجر كان جزءا حيا من أخبار صحافة الوطن، حتى لو كانت مكتوبة بلغات غير العربية (الإنجليزية، الكلدانية السريانية)، ولكن جميعها وخاصة المكتوبة بالعربية والإنجليزية احتوت الأحداث والتجارب المحلية، والتقلبات السياسية والجوانب الثقافية، والتأثيرات المجتمعية والروحية.

ولم يكون الرواد مختلفين عن الأخرين في هذا الحس والتجربة الذاتية وجعلوا السنتهم واقلامهم ومجلاتهم وسيلة للتعبير عما يجري في حياتهم اليومية وسط حياتهم الغربية وكانت جرائدهم منبعثة من حقيقة حياتهم وأدت الى جمال أثارهم وإصداراتهم المتسمة بسمة الواقع والبساطة فأبدعوا وثقفوا وحفظوا وعلمونا روعة القراءة واهمية الثقافة القريبة للوجدان والروح.

وبوسعنا أن نعتبر فترة حكم البعث وصدام حسين وحرب الخليج والغزو الأميركي للعراق، فترات ذات اهتمام ومتابعة أكبر بين جيل القراء. إذ شهدت منطقة مترو ديترويت ولادة العديد من المطبوعات والمجلات والصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية الجديدة بين الأعوام (1980 و2003)، ولا غرابة ان تم تمويل العديد منها من قبل نظام صدام حسين، وأصبح بعضها أبواقًا لنظام البعث وسياساته.

أنتجت السنوات التي تلت عام 2003 والغزو الأمريكي ردود فعل فئة من الصحفيين وهجرة الذين لم يعبروا إلى الجانب الآخر أو لم يواكبوا المتغيرات الجديدة، وكان الكتاب والمحررون في شد وجذب مع معممي الحكم وصراع مع أنفسهم نتيجة تقاطع الرؤى الفكرية والسياسية بين النخبة المثقفة والسلطة الطائفية الحاكمة، وظهر انقسام بين الصحافة الموالية للحكومة والمعارضة وكان المحتوى يتأثر دائمًا بما يحدث داخل العراق وردود المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية كما واهتم المحررون بقضايا المهاجرين وأخبار الوطن والمواضيع الثقافية المختلفة.

في الأول من أبريل عام 1990، أصدر المحرر أمير دنحا العدد الأول من جريدة ديترويت كالديان تايمز وعلى مدى أكثر من 25 عامًا، كانت المطبوعة الرائدة للمجتمع الكلداني والعربي الى حين توقفت عن الصدور نهائيًا في عام 2015. وكان التراجع مصير كثير من الإصدارات الشهيرة الأخرى التي توقفت عن النشر والإصدار مثل: المنتدى، المهاجر، القيثارة، مجلة حمورابي، والسنبلة وغيرها كثير كرّس فيها الرواد الصحافيون الكلدان وقتهم وطاقتهم لمبادئ الحق والعدالة والإيمان والأسرة وتاريخ ايامهم في العراق.

وكانت عوامل التراجع الأساسية هي التمويل وتكاليف الطباعة والتوزيع، وانخفاض الاشتراكات، ودفع الرواتب، مما يعني خسارة معظم المؤسسات الإعلامية واضطرارها إلى الاعتماد على الأحزاب أو الشخصيات البارزة للحصول على الدعم المالي. وكان انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من أهم أسباب التراجع، مما أدى إلى حصر المطبوعات في عدد قليل فقط.

حاولنا في هذا العرض السريع تسليط الأضواء على المطبوعات وفتح الباب أمام دراسات أوسع والتعريف بجزء من واقع الصحافة العراقية التي كانت تابعة بشكل ما للأطراف التي مولتها واستفادت منها ومن الواقع الدولي المحيط بالعراق بعد حرب الخليج والغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ومن يقرأ الموضوع قد لم يعرف تأريخ هذه المطبوعات ولذة وصعوبة أيامها، وربما من يعرفها هم القراء الذين عاشوا هذه التجربة، والآن هناك مئات المواقع التي تقدم كل هذه المعلومات مجانا على مواقع شبكة الانترنيت ونتمنى أن يكون قراءها كثر حتى يستمتعوا ويستفيدوا.

ورغم كل ما سبق يبقى الجانب المشرق في مجال الإعلام يأتي من خلال ظهور جيل جديد من الصحفيين الشباب وسط مجتمع الجالية وتنوع ابتكاراتهم في القنوات الرقمية والصحف والمواقع الإلكترونية التي استوعبت فئات كثيرة من الباحثين عن فرص الحداثة وربما سرقوا الأضواء من الأسماء التقليدية التي لم تتمكن من مواكبة متغيرات القرن الجديد، ومن جيل الرواد الذي كان له السبق في أكثر من مجال إعلامي في العقود الماضية.

نحن نعتز بالجيل الصاعد من الكتاب والصحفيين ونفتخر بوصفهم “بالشموس الساطعة” إذ هم مثال لإحياء التجديد وتعّلموا من مسارات الرواد وفهموا آليات العمل الصحفي ومعاصرة تقنيات الزمان وتحرير الأخبار وكتابة المقالات التي تتميز بالمعرفة والوضوح ولا عجب أن يصبح الكتاب الجدد ظاهرة إيجابية في الإعلام المحلي يرفعون من خلالها راية الإبداع في العمل الصحفي وثقافة التحرر من الخوف والتردد والتراجع وهم لذلك يستحقون الدعم والتقدير خاصة وأن الجالية في حالة تطور مستمر في مجالات التعليم الأكاديمي والإبداع المجتمعي وتأسيس ثقافة جامعة وفكر حر ومستقل بعيد عن التحزب والاستقطاب يمضي قدماً صوب تعزيز هويتنا والحفاظ على تراثنا وإعلاء شأن إسهاماتنا الوطنية والثقافية والإنسانية في الديار المهجرية.

وفي هذا الاستذكار لابد ألا ننسى تجارب الرواد المبدعين وجيل الصحفيين والكتاب الذين كانوا يؤمنون بحرية التعبير ويجيدون التفكير ونشكرهم لإصداراتهم في سنوات بدايات اكتسابنا للمعرفة ولكل من مهد الطريق وجازف وساهم وكتب ونشر وأمسك بأيدينا وأقلامنا وقاسمونا الكلمات والمشاعر قولاً وفعلاً وسلاماً لكل كاتب صافحت أبجدياته اًلأيادي ولكل مفكر أغنت مقالاته الفكر ولكل ناشر حبّرت أقلامه ذكريات ومقالات لا تنسى.

القراء الأعزاء: ان هذه المقالة هي مساهمة في أرشفة الجانب الإعلامي لدى الجالية العراقية وخاصة في مدينة ديترويت، ربما هناك اسم او تاريخ ورد سهوا، وربما هناك اضافة، نرجوكم أن تكتبوا لنا، ونرجو أيضا لو يتوفر عندكم صور للمجلات أو الجرائد او للشخصيات التي عملت في الإعلام منذ حقبة الخمسينيات، نرجوكم ان تزودونا بها.