انبياء اليهود في بلاد الرافدين – مواقع ومراقد وقصص واساطير - الجزء الثاني
Nabbi-Yunus (Jonah) Mosque
بقلم د عضيد ميري
سجلات التاريخ في بلاد ما بين النهرين (العراق) تبيّن انه بعد 2600 عام من الاستيطان اليهودي المتواصل في المنطقة التي وُلد فيها النبي إبراهيم، وسُجل فيها عهد بابل حيث كَتبَ اليهود التلمود البابلي، انتهى وجود المكون اليهودي العراقي في وطن اجدادهم بعد احداث الفرهود واسقاط الجنسية العراقية عن هذا المكّون الأصيل في النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم ذلك، لا يزال هناك تراث مادي وتاريخي يستحق التذكير به ومواقع دينية وأثرية مقدسة مهملة، ومتروكة لمعول الزمان ومهددة بالانقراض تنتظر الرحمة والعناية والترميم. لقد حددت أبحاث أجراها أثريون وأكاديميون 27 موقعًا في العراق لا تزال قائمة، ولكنها معرضة للخطر والاندثار وهي في حالة بالغة السوء.
لقد عاش اليهود العراقيون بلاد الرافدين وفي أرضٍ ارتبطت تاريخيا وثقافيًا بالنصوص الدينية المركزية المقدسة لليهودية، وتعتبر بابل في بلاد ما بين النهرين القديمة (العراق الحديث) جزءٌ لا يتجزأ من التراث التوراتي، فهي وفقًا للتقاليد اليهودية، كانت جنة عدن وتقع بين نهري دجلة والفرات في منطقة خصبة مليئة بالحياة.
وكان ومازال المسلمون واليهود العراقيون يقدسون مواقع القبور المحلية المرتبطة برؤساء وأنبياء الكتاب المقدس مثل (دانيال وحزقيال وعزرا ويونس وناحوم)، وكذلك أضرحة النبي يونس (يونان) في الموصل وعزرا (العزير) في العمارة واسحاق الكًعوني في بغداد وغيرهم من الأنبياء التوراتيين الذين كانت اصولهم من بلاد الرافدين.
خلال الحكم العثماني، شكل اليهود 40٪ من سكان بغداد، إذ بلغ عددهم 150,000 في عام 1948 عند تأسيس الدولة العبرية وخلال السنوات الثلاث التالية، وكنتيجة للهجرة غادر 96٪ منهم العراق بسبب الضغوط والتقلبات السياسية وحملة تسقيط الجنسية، وتوجه معظم اليهود العراقيين إلى الدولة العبرية، التي تضم حاليًا 220,000 يهودي من أصل بابلي عراقي.
وفي وقت من الأوقات، كان في العراق 118 معبدًا يهوديًا، و48 مدرسة تلموديه، وتسعة أضرحة للأنبياء ورجال الدين، وثلاثة مقابر يهودية ولليهود في العراق مقاماتٌ وأضرحةٌ عريقةٌ يزورها اليهودُ في الأعياد وغيرها من المناسبات. وباعتبار اليهودية ديانة توحيدية، يؤمن أتباع اليهودية بإله واحد أعلن نفسه من خلال الأنبياء القدماء، بمن فيهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وموسى، وسليمان، وغيرهم. وبعضُ هذه المقامات مقدسٌ لدى المسلمين أيضًا إذ يتوافد مئات الحجاج المسلمين إلى الأماكن والمراقد المقدسة كل عام لتكريم هؤلاء الأنبياء مثل عزرا (العزير) قرب العمارة وحزقيال (ذا الكفل) قرب الحلة الذي تحمل البلاطات فوق مدخل قبره، نقشًا عبريًا يقول: «هنا قبر سيدنا حزقيال».
كان النبي حزقيال (ذو الكفل) ينحدر من الحلة في وسط - جنوب العراق، ويقع مزاره في ناحية الكفل في محافظة بابل، وسميت الناحية نسبة إلى هذا المزار. والمنطقة التي يقع فيها المزار كانت معروفة بتواجد كثيف لليهود حتى نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، قبل هجرتهم من العراق، ويُعتقد أن النبي حزقيال هو نفسه المذكور في التوراة والقرآن، ويوجد في مدينة الكفل خانات يهودية ومنازل وسوق يعود تاريخها إلى فترة تواجد اليهود في المنطقة، وتعتبر المنطقة من الأماكن المقدسة لدى اليهود. كما تضم مناطق العراق الأخرى مقامات النبي يونان في نينوى ودانيال في كركوك، وناحوم في القوش.
في أعقاب عمليات التهجير اليهودية في خمسينيات القرن الماضي، حُوّلت أضرحة أنبياء الكتاب المقدس عزرا وحزقيال ويونس إلى مساجد، واختفت مئات المعابد اليهودية، باستثناء كنيس مائير طويق في بغداد. وبمعجزة، نجا كنيس ساسون في الموصل، ولكنه تضرر بشدة.
وبالرغم من تعرّض الجالية اليهودية للاضطهاد جراء القمع الشديد لليهود الذين بقوا في العراق، فإن مستوى القمع تذبذب مع مرور الوقت، وبحلول منتصف سبعينيات القرن الماضي، تُركوا إلى حد كبير لإدارة شؤونهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية بأنفسهم. ولكن بعدما غادر جميع يهود العراق تقريبًا، انتقل معظم التراث المعماري اليهودي العراقي الجماعي إلى سيطرة الدولة العراقية، التي أهملته، أو أعادت توظيفه، أو سلمته إلى أفراد لاستخدامهم الخاص أو لإعادة تطويره. ونتيجة لذلك، تدهور معظم التراث اليهودي العراقي بشكل كبير، أو خضع لتعديلات جوهرية، أو هُدّم بالكامل. ولكن مع ذلك، تبقى ذكريات يهود العراق، تذكير مهم لفهم التعددية الدينية وأهمية السلام في ظلّ التنوع المجتمعي والديني في الوطن الواحد.
في الجزء الأول من هذه السلسة الذي نشر في عدد شهر حزيران 2025، تناولنا ثلاثة أضرحة يهودية بارزة في العمارة والحلة وبغداد (عزرا، حسقيال، كًاعون). وفي هذا الجزء الثاني سنتناول خمسة مواقع إضافية في محافظة نينوى
:
4- ضريح الكاهن الأعظم يوشع كوهين جادول
في العبرية «رئيس كهنة إسرائيل כֹּהֵן גָּדוֹל»باللغة الرومانية: كوهين جادول، تعني حرفيًا «الكاهن الأعظم» وبالآرامية «كاهنا رابا» هو الكاهن الكبير و
شغل كوهين جادول، أقدس منصب في اليهودية، وامتد دوره عبر التاريخ من عهد هارون في العصور القديمة حتى دمار الهيكل الثاني. وكانت مهمة كوهين جادول الإشراف على خدمة الهيكل والعمل كقائد روحي للشعب اليهودي ومسؤوليته الأبرز دخول قدس الأقداس في يوم كيبور، عندما يلتقي أقدس الأوقات والأشخاص والأماكن.
بالنسبة لليهود العراقيين (يهود بابل) יהדות בבל، يقع ضريح رئيس الكهنة (יהושע בן יהוצדק) في مقبرة جنيد البغدادي، وبُني الضريح على يد اليهود في القرن السادس قبل الميلاد ويقع بالقرب من ضريح الشيخ معروف الكرخي في الجانب الغربي من بغداد، واعتاد يهود العراق زيارته كمكان للصلاة والتبرك.
ويحظى القبر باحترام وتبجيل العرب واليهود ويُقال إن جثمان رئيس الكهنة موجود في صندوق كبير، وفوقه وضعت لوحة مصنوعة من النحاس مكتوب عليها بالأحرف العبرية «يوشع كوهين جادول». ويشبه القبر صندوقًا حجريًا ضخمًا، في رأسه صفيحة نحاسية، عليها نقوش عبرية بارزة، كالتالي: «يهسوده كوينجادش»، أي «لوسواه الكاهن الأكبر». ويقولون إنه كان قديسًا يُجله الجميع بسبب المعجزات التي أجراها الله بواسطته، إذ يذهب اليهود إلى الضريح شهريًا لسماع نصوص وكتابات الكاهن الأكبر وبعد الانتهاء من القراءة، يُنشدون الترانيم، ثم يجتمعون في مكان غير بعيد عن القبر، ويقيمون نزهة عائلية.
وهناك شهادات لأشخاص في عصور مختلفة عن الأنشطة اليهودية في الحرم وعن الكلمات العبرية التي كانت جزءًا من زخارف القبر والجدار. ووفقًا للمؤرخ الزائر بنيامين الثاني، فإن الضريح المذكور عام 1847 يقع على بُعد ساعة من بغداد، في مبنى صغير تُظلله ثماني نخلات كبيرة، ومقسّم إلى قسمين، أحدهما قبر الكاهن العظيم يوشع، المُزخرف بشكل جميل، والمذكور في سفر زكريا (٣:١). ومن بين مشاهير اليهود الآخرين المدفونين في فناء ضريح يوشع، الحاخام يعقوب بار يوسف، الطبيب (הרב יעקב בן רבי יוסף הרופא)، المدفون عام 1805، وعبد الله سوميخ (עבדאללה סומך)، المدفون عام 1889
ومع أن اسم كوهين جدول هو (يوشع)، فيجب عدم الخلط بينه وبين (هوشع ابن نون) من سبط افرايم ووفقًا للكتاب المقدس، وهوشع، حرفيًا يعني «خلّص» لكن موسى سمّاه «يوشع» عندما وُلد في مصر قبل الخروج، ويُعرف باسم (يشوع ابن نون) وبقيادته بني إسرائيل إلى أرض الميعاد بعد وفاة موسى. ولكيلا نخلط بين الأسماء والمواقع، فهناك العديد من التقاليد الإسلامية التي تُحدد مواقع أخرى لقبر النبي يوشع في دول شرق أوسطية تشمل (تل يوشع) في إسطنبول، تركيا، ومقام النبي يوشع في الأردن، وقرية (النبي يوشع) في صفد التي هي أعلى مدينة في الجليل والأراضي المقدسة، وفي كفل حارس بالضفة الغربية، وفقًا لتقليد سامري سُجّل عام 1877 يُعرف ضريح كفل حارس، الذي يعتبره اليهود قبر يوشع، ويسميه المسلمين باسم (مقام يوشع بن نون) ومقام خادم صلاح الدين بالإضافة إلى مواقع أخرى في إيران ولبنان
.
5- مقام النبي ناحوم الألقوشي
على بُعد خمسة وأربعين كيلومترًا (28 ميلًا) شمال الموصل، يقع مقام النبي ناحوم في بلدة القوش شمال العراق، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وكان موقع حج مهم للمجتمع اليهودي في الموصل والعراق خاصة خلال عيد الأسابيع.
كان ناحوم نبيًا يهوديًا، سُجِّلت نبوءته في سفر ناحوم، وهو السفر السابع من سلسلة الأنبياء الصغار في الكتاب العبري المقدس (المعروف أيضًا باسم العهد القديم)، واشتهر بنبوءته المتعلقة بسقوط الإمبراطورية الآشورية وعاصمتها نينوى. ويُعتقد أن هذا السفر كُتب بعد الهجوم الآشوري على (طيبة) وقبل سقوط نينوى عام 612 قبل الميلاد. وكتب ناحوم في الكتاب المقدس عن نينوى: «كل من يراك يهرب منك ويقول خربت نينوى فمن سيندبها؟ وأين أطلب لك معزين؟»
لا يُعرف الكثير عن ناحوم، الذي تنبأ بسقوط نينوى في العهد القديم، ووفقًا للكتاب المقدس، يُعتبر ناحوم أحد الأنبياء الصغار الاثني عشر الذين يُعتقد أنهم ولدوا وماتوا في مدينة القوش لكن قبره كان جزءًا أساسيًا من الحياة اليهودية في المنطقة وكان اليهود العراقيون يزورون القبر بالآلاف خلال عيد الأسابيع (وهو عيد يحتفل بنزول التوراة على اليهود بعد سبعة أسابيع من نفيهم من مصر)، ويعيدون تمثيل مشاهد جبل سيناء على القمم الشامخة فوق المدينة.
يقع هذا الموقع أسفل طريق متعرج يمر عبر القوش، بين صفوف المنازل الحجرية في هذه البلدة الكلدانية وكان المجمع يضم في السابق مدرسة يهودية وكنيسً مركزي مع قبر النبي ناحوم وسلسلة من المباني الفرعية المرتبة حول ساحة الفناء الوسطية. وعلى قبر النبي ناحوم وقبره نقشٌ بالعبرية يشير إلى أن المبنى الحالي قد جُدد عام 1796 ميلاديًا على يد عبد الله يوسف وساسون صالح داود (الجد الأكبر لعائلة ساسون اليهودية الشهيرة في العراق) وبالقرب منه، تقع مغارة السيدة سارة، شقيقة النبي. ولا تقتصر قدسية هذا المقام على اليهود فحسب، بل تمتد إلى المسيحيين والمسلمين.
وبينما عاش اغلب اليهود في مدن العراق الجنوبية مثل بغداد والحلة والبصرة، كانت المناطق في الشمال مثل الموصل ودهوك موطنًا لليهود الناطقين بالآرامية، ويُقال عنهم غالبًا إنهم ينحدرون مباشرة من قبائل إسرائيل المفقودة. ومع أن المسلمين واليهود والمسيحيين يُجلّون النبي ناحوم، إلا أنه لو حصل ودخل داعش القوش، لدمّروا قبره كما دمّروا قبر النبي يونان في الموصل (نينوى القديمة) في 24 يوليو/تموز 2014. إذ كان داعش مُصمّمًا على محو التاريخ المشترك للطوائف الدينية المتنوعة التي عاشت في الموصل، واستبدال مفهوم الطوائف المختلفة بأيديولوجية ضيقة، إجرامية قسرية قاسية لا ترحم، ولا قيمة عندهم لأي شيء سبق الإسلام.
وفي مدينة الموصل التي تقع على بُعد أقل من 50 كيلومترًا من القوش، كاد التراث اليهودي في الموصل يُمحى من على الخريطة، إذ دمّرت جماعة داعش الإرهابية قبري النبيين يونان ودانيال، وكان ناحوم النبي الوحيد الذي نجا من همج داعش، لكن ضريحه كان في حالة سيئة للغاية، بعد ان تُرك الموقع خاليًا لعقود منذ رحيل يهود العراق في خمسينيات القرن الماضي.
حاول المسيحيون المحليون الحفاظ على الضريح بعد رحيل الجالية اليهودية، وكان الموقع محور جهود الحفظ الدولية على مدار العقد الماضي، وتم إجراء بعض أعمال التثبيت في أواخر عام 2017، بواسطة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والتبرعات الأمريكية الخاصة لترميم قبر النبي ناحوم بمقدار 500 الف دولار ، وبدأ مشروع الترميم لحفظ التراث الثقافي من قبل حكومة الولايات المتحدة وحكومة إقليم كردستان والمانحين من القطاع الخاص وأعادت مبادرة أعمال الترميم القبر إلى مجده المتواضع السابق باستخدام نفس الأحجار التقليدية المبعثرة حول الموقع.
تفتح الأبواب الخشبية على مرقد القبر، بينما يطفو ضوء ذهبي دافئ عبر النوافذ الشبكية. وتصطف النقوش العبرية، التي كانت مخفية سابقًا تحت قرون من تراكم التربة والمعادن والصدأ على الجدران. ويوجد كتاب صلاة، باللغتين الإنجليزية والعبرية، على القبر، محاطًا ببوابات حديدية خضراء، ملفوفة بحرير أخضر، وعادة يُقرع جرس الكنيس بهدوء بعد الظهر.
وفي السنوات القليلة الماضية، أصبح ضريح النبي ناحوم، بعد ترميمه، ملتقىً للسكان المحليين من جميع الأديان، ومزارا للحجاج والزوار والضيوف الأجانب، إذ انه موقع تاريخي وديني مفتوح للزوار، مع حمايته في الوقت نفسه، لقد رُمم ضريح النبي ناحوم ليعود إلى مجده السابق، ولكن مستقبله وأمنه يبقى غامضاً ومجهول.
6- مقام النبي يونس (ذو النون) - الموصل
يونس بن متى (يُوْنُس ٱبْن مَتّىٰ) أو النبي يونان (جونا) كان نبيًا يهوديًا يُعرف بأنه ابن أمتاي. وكان أحد الأنبياء الصغار الاثني عشر في الكتاب المقدس العبري والعهد القديم المسيحي. تُعد سيرته جزءًا من كتاب أكبر، وهو كتاب الاثني عشر، في الشريعة اليهودية.
ويونس هو الاسم العربي للنبي يونان ويحظى موقع النبي بتبجيل اليهود والمسيحيين والمسلمين إذ أن يونان هو النبي الوحيد من بين الأنبياء الاثني عشر الصغار في الكتاب المقدس العبري الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم، وسُميت السورة العاشرة من القرآن الكريم، باسمه (سورة يونس)، كما وذُكر يونس في القرآن الكريم عدة مرات كرسول من رسل الله، وباسم ذي النون (ذو النون).
وبناءً على المعلومات التاريخية الواردة في سفر الملوك الثاني، يُحتمل أنه عاش حوالي عام 785 قبل الميلاد. في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الآشورية واحدة من أكثر الإمبراطوريات قسوة وعدوانية في بلاد ما بين النهرين. ورغم أن أحداث قصة يونان تدور خلال سنوات الحكم الآشوري، فمن المرجح أنها كُتبت بعد السبي البابلي، حين كانت ذكريات الطغيان الآشوري باقية في الأساطير ووسط التاريخ الشفوي لليهود. وفي الكتاب المسيحي المقدس يُذكر سفر يونان وقصة الحوت ويُرجح أن الرواية، التي تُعارض القومية اليهودية الضيقة في ذلك الوقت، ويرجح انها كُتبت في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، كما وذُكر يونان في سفر الملوك الثاني ١٤:٢٥
أُرسل النبي (يونس بن متى) إلى نينوى، حوالي عام 800 قبل الميلاد ويقال حينها ان أهل نينوى عاشوا حياةً فاسدةً وابتعدوا عن الله وكان لابد من معاقبتهم. كان النبي يونس رجلًا عاديًا، وُلد ونشأ بين أهل نينوى ووفقًا للرواية التوراتية، أمر الله يونان بتحذير سكان نينوى ليتوبوا عن خطاياهم والعودة الى رشدهم، وترك طرقهم الشريرة فجاء يونس وأمرهم بعبادة الله إلهًا واحدًا، رغم انه رفض الاعتقاد بأن هؤلاء الكفرة المكروهين يستحقون الخلاص.
يقال عن قصته مع الحوت أنه سافر غربًا إلى ميناء يافا وركب سفينة متجهة إلى ترشيش عبر البحر الأبيض المتوسط، وحصل ان هددت عاصفة شديدة السفينة، وأجرى البحارة قرعة لمعرفة أي رجل هو سبب مصيبتهم. فوقعت القرعة على يونان، الذي أخبر البحارة أن العاصفة هي بسبه وأمرهم بإلقائه في البحر كقصاص له، ففعلوا. وبمجرد أن أُلقي يونان في البحر، هدأت العاصفة، وابتلعه حوت ضخم، قضى في بطنه ثلاثة أيام وليالٍ وقام بالصلاة ودعا للنجاة، فأمر الله الحوت ببصق الرجل والقاءه على اليابسة، فسلم يونان وتوجه إلى نينوى امتثالًا لتعليمات الله الأصلية له. وعند سماع اهل نينوى تحذيرات النبي العائد، تقول الأسطورة ان الملك وأهل نينوى تابوا عن خطاياهم وموبقاتهم، ولم يعاقبهم الله بعد ذلك.
ويُعتقد أن مدينة الموصل في العراق هي موقع دفن النبي يونان وعلى اركانه بُني جامع النبي يونس (جامع ٱلنَّبِي يُونُس) الذي هو مسجد تاريخي وأحد الرموز الدينية المهمة في نينوى حيث سبق واكتشف جلال الدين إبراهيم الخاتني قبر النبي يونس أثناء إعادة بناء الموقع كمسجد عام 1365، وتم البناء فوق أسس كنيسة مسيحية آشورية مهدمة كانت تشير إلى قبر يونان، كما كان التل الذي يقف عليه مسجد النبي يونس موقعًا لقصر آشوري سابق بناه الملك أسرحدون، حوالي 681-669 قبل الميلاد، وعُثر على أدلة وجود هذا القصر تحت النبي يونس خلال أعمال التنقيب في ستينيات القرن التاسع عشر.
قاوم موقع قبر النبي يونس في الموصل محاولات تحويله إلى كنيسة أو مسجد لأجيال، وفي عام 1924، أضاف مهندس معماري تركي مئذنة إلى مبنى المسجد، إذ كان للمسجد حينذاك مئذنة واحدة وقبة مخروطية مضلعة. وبُنيت أرضيات المسجد من المرمر، وجُعلت غرف الصلاة ذات مداخل مقوسة نُقشت عليها آيات قرآنية، ويقع القبر في زاوية من المسجد، ويُعتقد أن التابوت المسجى هو ليونس، وبُني حوله ضريح خشبي.
وشهد قبر النبي يونس تغييرات على مر السنين، ففي عهد صدام حسين، جُدد المسجد ووسّع، وعيّن صدام حسين حراسًا لحماية الأماكن المقدسة خلال فترة حكمه. وفي كل عام، يتوافد مئات الحجاج المسلمين لتكريم هذا النبي، إذ يعتقد كثير من المسلمين أن عظام النبي حُفظت في موقع القبر ويعتقدون أن الضريح يحتوي على أحد اسنان الحوت الذي ابتلع يونس وبقي في بطنه ثلاثة أيام.
اعتاد يهود الموصل زيارة هذا المقام بمناسبة عيد المظال (المظلات)، الذي يبدأ في الخامس عشر من أكتوبر ويستمر سبعة أيام. ووفقًا للتقاليد اليهودية، فإن النبي يونس توفي في عيد المظال، فصنع اليهود في هذا العيد مظلةً ليجلس الزوار اليهود تحتها بعد دفع رسوم الدخول للحارس المسؤول عن المكان. ولم يُسمح لغير اليهود بالاقتراب من التابوت الأخضر، رجالًا ونساءً وأطفالًا.
وهناك اساطير ونظريات وروايات عن مواقع أخرى معروفة بقبر يونان كما في قرية مشهد، الواقعة على موقع جت حافر الأثري في إسرائيل، وبلدة حلحول الفلسطينية في الضفة الغربية، على بُعد 5 كيلومترات شمال الخليل، ومزار قرب مدينة صرفه في لبنان وتقول رواية أخرى إن القبر يقع على تلة تُسمى الآن جفعات يونا، أي «تلة يونان» على الحافة الشمالية لمدينة أشدود الإسرائيلية وفي موقع مُغطى بمنارة حديثة، ويمكن العثور على قبر يونان في ديار بكر بتركيا، خلف محراب مسجد فاتح باشا.
أدى تنظيم داعش (2014-2017) إلى محو التراث اليهودي في الموصل من على الخريطة. إذ في 24 يوليو/تموز 2014، فجّر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مسجد النبي يونس ودمره عمدًا. وكانت الجماعة الإرهابية قد دمرت قبري النبيين يونان ودانيال والمنارة الحدباء. وناشد السكان المحليون التنظيم إنقاذ الموقع الذي لطالما اعتُبر أحد «جواهر المدينة» وملتقىً للطوائف الدينية المختلفة. وحسب قول الإرهابيين «أصبح المسجد مكانًا للردة، لا للصلاة». تؤكد صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 19 و30 يوليو/تموز 2014 تدمير المقام. وتوثق الصور اللاحقة إزالة الأنقاض من الموقع.
في مارس/آذار 2017، وبعد طرد داعش، عُثر على شبكة أنفاق يبلغ طولها حوالي كيلومتر واحد تحت المسجد ووجد علماء الآثار شيئًا غريبًا تحت أنقاض المسجد، إذ كان هناك عدد أكبر بكثير من الأنفاق التي عرفت ووُثّقت سابقًا. إذ اكتشف أكثر من 50 نفقًا جديدًا، بعضها لا يتجاوز طوله بضعة أمتار، والبعض الآخر أطول من 20 متر، وعلى الرغم من سرقة وإزالة كثير من اللوحات والأثريات لا تزال هناك نقوش وهياكل ومنحوتات آشورية على طول جوانب الجدران، مما يؤكد الأصل الآشوري لهذا الموقع التاريخي.
7- كنيس ساسون في الموصل
الموصل هي ثاني أكبر مدينة في العراق بعد العاصمة بغداد تقع على ضفاف نهر دجلة، وتضم آثار آشور القديمة ومدينة نينوى. وبفضل موقعها الاستراتيجي والمركزي، لطالما كانت الموصل مركزًا للتجارة والسفر في المنطقة، وتُعتبر من أهم مدن العالم تاريخيًا وآثاريا وثقافيًا.
وتُعد محافظة نينوى ومدينة الموصل، بوتقة انصهار لمختلف الطوائف العرقية والدينية في العراق، ولعصور طويلة، كانت مدينة الموصل العراقية، التي تضم موقع نينوى التوراتية، موطنًا للعرب والأتراك والأكراد والمسلمين السنة والكلدان، والآشوريين، واليزيدين، واليهود. لكن وبسبب معاداة السامية في منتصف القرن العشرين، فان معظم يهود الموصل الذين هُجّروا وصودرت أملاكهم خلال خمسينيات القرن الماضي في ظل نظام بغداد الموالي للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948
وفي أعقاب عمليات التهجير اليهودي في خمسينيات القرن الماضي، حُوّلت أضرحة الأنبياء عزرا وحزقيال ويونس إلى مساجد، واختفت مئات المعابد اليهودية، باستثناء معبد مائير طويق في بغداد، ولم يبقَ إلا قلة من اليهود على الرغم من وجود أقليات دينية أخرى، إلى جانب معبد ساسون التاريخي في الموصل، الذي نجا من الدمار الكامل، ولكنه تضرر بشدة. ويُعد معبد ساسون المعبد (الكنيس) الوحيد الباقي في الموصل، ويعتبر الحفاظ عليه كرمز وتذكير للتعايش المجتمعي المختلط الذي كان قائمًا في العراق عبر التاريخ امرأ مهما إذ كان المعبد الرئيسي في المدينة خلال القرن العشرين نظرًا لموقعه المركزي في الحي اليهودي، وممثلاً للتراث اليهودي المستمر في الموصل.
يعود تاريخ كنيس ساسون في الموصل الى عام 1902، وتُشير اللوحات عند منعطف أحد أزقة مدينة الموصل إلى أنقاض كنيس ساسون الذي كان في يوم من الأيام قلب الجالية اليهودية الموصلية المزدهرة وقوامها 6000 شخص، وكانت مدينة الموصل رمزاًٌ وعنواناً لتعددية الأديان، إلا انه بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 اهمل الموقع تماماً واستُخدم الكنيس للتخلص من القمامة، وحُوِّل حمامه إلى حظيرة للخيول، وتنتشر الأنقاض والخردة المعدنية حوله في كل مكان، كما انهار الجزء الداخلي للكنيس، المكون من طابقين وتصدعت الأعمدة والأقواس ذات اللون الأزرق السماوي وتفككت الدرجات المؤدية إلى خزانة مخطوطات التوراة، كما امتلأ العقار بالحطام المتراكم في المبنى على مدى العقود الماضية مما أدى إلى تعريض الديكور الداخلي واللوحات الجدارية، للعوامل الجوية وزيادة خطر سقوط بقية البناية، وعلاوة على ذلك استهدف اللصوص الموقع، مما أدى إلى سرقة الممتلكات الثقافية اليهودية. واليوم، لا تزال البناية فارغة، مغلقة، ومتهالكة بسبب الإهمال المتعمد، في بلدٍ يسوده الفساد وسوء الإدارة. إن محاولة إحياء الذاكرة اليهودية للمدينة والمساعدة في إعادة بناء الكنيس أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، ومع ذلك، يُناصر بعض العراقيين الحفاظ على الذاكرة اليهودية في الموصل والعراق.
بعد عام من تحرير المدينة من داعش في عام 2017، بدأت بقايا أماكن العبادة الدينية التاريخية والآثار والمتاحف في الظهور من بين أنقاض الحرب، وكان أحدها كنيس ساسون. ووفقًا لليونسكو، فقد تم تدمير 80٪ من التراث الثقافي لمدينة الموصل، بما في ذلك الحي اليهودي. وتُبذل حالياً جهودٌ بقيادة عددٍ من اليهود العراقيين المغتربين للحفاظ على الكنيس، ومعه التراث اليهودي الموصلي المُعرَّض لخطر الضياع إلى الأبد. يأتي هذا الجهد في الوقت الذي تُخصِّص فيه العديد من المنظمات الثقافية الدولية الأموال والكوادر لإعادة بناء المعالم التاريخية المهمة في المدينة، مثل جامع النوري الكبير ومئذنته الحدباء المميزة، وكنيسة سيدة الساعة بعد ان فجَّرهما تنظيم داعش عام 2017. وفي يناير/كانون الثاني، أعلنت القنصلية الأمريكية في أربيل عن تمويل بقيمة 500 ألف دولار لترميم كنيس حزقيال الصغير بالقرب من عقرة ، وأعربت منظمة «ألف»، التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع، ومقرها سويسرا، عن استعدادها لدعم مشروع ترميم مُحتمل لكنيس ساسون، ومع كل تلك المبادرات القيمة فإن كنيس ساسون يبقى كما تبقى ذكريات يهود الموصل والعراق، كتذكير لفهم مبدأ التعددية الدينية وأهمية السلام في ظلّ التنوع المجتمعي والديني في الوطن الواحد.
8- مقام النبي عبيدية - الموصل
يقع هذا المقام في الحي اليهودي بالموصل، وفي داخل سرداب مظلم في البناية نجد نعش مغطى بقماش مخملي أخضر، وكان اليهود يزورون هذا المقام في عيد الأسابيع، ويدخلون إليه ويستلقون بجانب القبر. أما المسلمون، فلم يعتادوا الدخول اليه، بل كانوا يقفون بجانب نافذة في الجدار الشرقي ويتهامسون سراً بما يسألون ويطلبون من النبي عبيدية صلوات من اجل تحقيق النذور والأمنيات.
لقد قدّم المُكّون والمُجتمع اليهودي مساهمةً إيجابية عميقة للمجتمع العراقي، وعلى الدولة تقع مسؤولية الحفاظ على تراثه ومواقعه الدينية تمامًا كما هو حال الحفاظ على القلة القليلة من اليهود العراقيين الأصلاء الذين ما زالوا يقيمون في زوايا خفية من العراق، وتجري أحاديثهم وحياتهم عن تاريخهم همساً ًوسرًا، ويكتّم بعضهم إيمانهم، ولكنهم استمروا متمسكين بتراب وطنهم واجدادهم رغم كل مصائبهم، وجَور الأهل والجيران والزمان والمكان.
المصادر: ويكيبيديا، «المزارات اليهودية في العراق» للدكتورة وسن حسين محيميد، ذكريات عدن لفيوليت شمش، يهود العراق (تاريخهم وأحوالهم وهجرتهم) ليعقوب يوسف كورية، الشوق إلى تاريخ يهود العراق، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق، نُشر عام 1922، ليوسف رزق الله غنيمة، تاريخ يهود العراق في القرن العشرين لمير بصري، بغداد الأمس - صناعة يهودي عربي لساسون سوميخ، صور ليفي كلانسي، روبرت فيلبوت، وبريتانيكا - جينيفر مورتوف.