أنبياء اليهود في بلاد الرافدين – مواقع ومراقد وقصص واساطير – الجزء الأول
بقلم د عضيد ميري
لا تخلو صفحة من صفحات تأريخ العراق الحديث إلا وتجري الاشارة والاشادة بتأريخ ودور اليهود العراقيين في اغناء جوانب كثيرة ورائدة في مجتمع وحياة العراقيين لكن سياسة الانظمة، والتعصب والكراهية فعلت فعلتها تجاه هذا المكون الاصيل فكان الاضطهاد والتسقيط والتهجير والملاحقة، وجرى وبتعمد تام تغييب تأريخ يهود العراق في القرن العشرين، حتى بدأت هذه الحالة الشاذة تتساقط امام تطور المجتمعات، ، وانتشار المعرفة، والثقافة. واليوم لم يعد هناك وجود ليهود العراق في وطنهم الأم، ولكن إرثهم الحضاري ومزاراتهم ورموزهم ما زالت موجودة.
وتفيد الرواية التاريخية، أن أبا الأنبياء إبراهيم ولد في أور الكلدان في جنوب وقلب أهوار العراق، كما وفي الروايات تقع جنات عدن في تلك الجغرافية وهناك أيضا كتب التلمود البابلي. وتمنناً بإيمانهم الراسخ بهذه الجذور، عاش اليهود لسنين طويلة في بلاد الرافدين حيث شكلوا ثاني اكبر طائفة في بغداد أو أربعين بالمئة من سكانها وفقا لإحصاء أجرته الامبراطورية العثمانية في 1917، وتشير إحصاءات رسمية إلى وجود 219 ألف يهودي من أصل عراقي في إسرائيل يشكلون أكبر مجموعة لليهود من أصول آسيوية في الدولة العبرية.
وخلال القرن الماضي وبسبب تصاعد التوتر في المنطقة وقيام الدولة العبرية، رحل معظم يهود العراق الى إسرائيل وانكًلترا وأسقطت عنهم الجنسية العراقية وتمت مصادرة ممتلكاتهم واهملت مدارسهم ودور عبادتهم وتلاشت إمكانية عودتهم إلى العراق. وما تبقى اليوم هو تاريخ وذكريات ترويه بعض المواقع الدينية المتبقية لتخليد ذكرى الأنبياء وقصص المراقد اليهودية، ومع ذلك نجد بصمات اليهود العراقيين في الأحياء اليهودية التي لم يبق منها سوى اسمها وتقع في بغداد والبصرة والحلة والموصل والرمادي وزاخو وكويسنجق ومدن أخرى في العراق.
وليهود العراق حديث حلو ومر وحنين يُذكر ويُسر عن حياتهم الماضية في العراق، ومقارنة حياتهم بعيدين عنه وعن ثقافتهم التي أريد لها تهجّيرهم منها ومن المجتمعات التي عاشوا فيها، ليغادروا إلى بلاد المهجر التي كانت بحاجة لخزانات بشرية توفر المزيد من المستوطنين، بالإضافة إلى خبراتهم وعلومهم وحضورهم القوي. ومازال يهود العراق يعيشون الحنين بالرجوع الى ذكريات شواطئ دجلة والفرات، ويتأسفون على مضي ألفان وستمائة عام وهم يعيشون على هذه الأرض، ويتذكرون ذكريات جميلة عدت عليها السنون وكادت أن تطمس معالمها مع ما فيها من عبر وعظات وشواهد على أن القوم في العراق كانوا يعيشون متعاونين متحابين على اختلاف مللهم ونحلهم بما كانوا عليه من خصال حميدة وتقاليد موروثة هي من القيم الروحية ومن الضوابط الخلقية وقاسما مشتركا بين جميع مكوناته. ولكن بسبب التعصّب ضدهم في وطن أنهكته الصراعات لعقود، انحسر عدد أفراد الديانة اليهودية في العراق بعد ان كانوا يشكلون واحدة من أكبر الأقليات في الشرق الأوسط، تاركين وراءهم تراثا قيّما في مهب الإهمال وتحملوا نتائج حوادث سياسية كبرى لم يكونوا طرفا فيها كطائفة.
كتب البروفيسور شموئيل موريه وهو يهودي عراقي الأصل ومتخصّص في الثقافة العربية في إسرائيل: “أعود إلى سنوات الصفاء قبل هجرتنا حين كنا نشعر بنفحات الخلد طيبا، تهب من دجلة والفرات رافدي الخير والبركة، نسيما عليلا، يوم كان أهله في بشاشة الفردوس ونعيمه، في أيام عز العراق تحت رعاية الملك فيصل الأول، يأتمرون بوصيته الوطنية: (الدين لله والوطن للجميع)”.
ويدلنا الدكتور موريه إلى مصادر مهمة من المكتبات والمخطوطات تحدثت عن يهود العراق، ومنها كتاب “رحلة بنيامين بن يونة التطيلى النباري الأندلسي" الذي قام برحلته في حدود سنين 1173-1165 و التي ترجمها عن الأصل العبري عزرا حداد في بغداد سنة 1945. يقول بنيامين التطيلي عن يهود بغداد التي زارها: “يقيم في بغداد نحو 40 ألف بهودي وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة. أما رئيس هؤلاء العلماء جميعهم فهو الرّبي دانيال بن حسداي الملقب ‘سيدنا رأس الجالوت ويسميه المسلمون "سيدنا ابن داود"، لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود، وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم، ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلدة، وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين، ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: (اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود) وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة.
اليوم، وفي ظل الوضع السياسي الحالي، السؤال هو: ما هو مستقبل العراق بلا قواعد للتعايش والتسامح؟ فما حصل من مأساة مع اليهود، تكرر مع مسيحيه ومندائييه وأزدييه، بل وبين شيعته وسنته، ووسط هذه الفوضى لا يبقى حامٍ، ولا يبقى شيء اسمه وطن ومواطن.
يهود بلاد ما بين النهرين والتراث التوراتي
التاريخ الغني بين بابل وبني إسرائيل مترابطٌ بعمق. يعلم العالم أجمع أن القدس هي أرض الأماكن المقدسة وأنبياء الديانات التوحيدية الثلاث. ومع ذلك، يجهل الكثيرون أن لأرض الأماكن المقدسة صلةً وثيقةً بأرض النهرين، وبلاد الرافدين ، مهد جنة عدن على الأرض، كما تشير نصوص التوراة. وعاش اليهود العراقيون في أرضٍ ارتبطت ماديًا وثقافيًا بالنصوص الدينية المركزية المقدسة لليهودية. وتعتبر بابل في بلاد ما بين النهرين القديمة (العراق الحديث) جزءٌ لا يتجزأ من التراث التوراتي، فهي ووفقًا للتقاليد اليهودية، كانت جنة عدن وتقع بين نهري دجلة والفرات في منطقة خصبة مليئة بالحياة.
تبيّن سجلات التاريخ في بلاد ما بين النهرين (العراق) انه بعد 2600 عام من الاستيطان اليهودي المتواصل في بلاد الرافدين وُلد اب الأنبياء، وكَتب اليهود التلمود البابلي في عهد بابل. فمن أرض سومر، وأور، قرب مدينة الناصرية جنوب العراق خرج أبو الأنبياء إبراهيم. ووُلدت رفقة، زوجة النبي إسحاق، في ناحور، جنوب شرق بغداد اليوم، في منطقة النهروان، فيما يُعرف بوادي حالون الذي تروي كتب تاريخه قصصًا عن ارتباطه بالسبي البابلي والفارسي لليهود.
يُذكر أن الشريط الحدودي بين إيران والعراق يضم حاليًا أضرحة لعشرات أنبياء بني إسرائيل، ويُحوي العراق الحديث العديد من المواقع والأضرحة المهمة للديانات الإبراهيمية، تضم مقابر دانيال وحزقيال وعزرا (العزير) وناحوم ويونس (جونا) وفقًا لمعتقدات اليهود والمسيحيين والمسلمين. وهناك أيضًا أضرحة تُنسب إلى بعض الأنبياء الآخرين، مثل مرقد النبي هود وصالح، الواقع في مقبرة وادي السلام في النجف بالعراق، وهما نبيان يقدسهما جميع المسلمين. وحنينه (حنين بالعربية) وآدم، وذو الكفل، وسليمان، وأيوب.
ويُعرف يونان (جونا) باسم النبي يونس، ويُبجل باسم النبي يونان ويقع ضريحه في نينوى- الموصل. ويعتقد بأنه انتقل من الناصرة في إسرائيل إلى نينوى (الموصل شمال العراق حاليًا)، ليبشّر الناس ويدعوهم الى التقوى وتبعه كثيرون، ولاحقًا، حاربت نينوى الآشورية ممالك بني إسرائيل، وانتصرت على أسباط بني إسرائيل العشر المتحاربة. ووفقًا للتقاليد التوراتية، فقد وصلوا عام 586 قبل الميلاد أسرى لدى الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني بعد أن دمر هيكل سليمان في القدس. وكانت بابل، تُعد أعظم حضارة في العالم المعروف حينذاك، غزت دولة بني إسرائيل، ودمرت القدس، العاصمة الأبدية لليهود العظماء، وجعلت اليهود يحتفلون بيوم السبت.
وفي بلاد ما بين النهرين بشّر النبي عاموس وأطلق دعوته. وفيها التقى النبي يعقوب بزوجته راحيل، ويُقال إنه التقى بها في ديالى في منطقة تُسمى سنبال، حيث لا يزال ضريح يعقوب قائمًا حتى اليوم. وفي الخفاجية على الحدود بين العراق وإيران في محافظة العمارة جنوب العراق اختبأ النبي دانيال في منطقة مسماة بعرين الأسد.
واليهود والمسلمون العراقيون يقدسون مواقع ومراقد الأنبياء المحلية المرتبطة برؤساء وأنبياء الكتاب المقدس مثل (دانيال وحزقيال وعزرا ويونس) ولهم مواقع مقدسة وأضرحة عريقة كان يزورها اليهود تاريخيًا في مناسبات الأعياد وغيرها. وفي السابق، كان في العراق 118 معبدًا يهوديًا، و48 مدرسة تلموديه، وتسعة أضرحة للأنبياء ورجال الدين، وثلاثة مقابر يهودية. وبعض الأضرحة، مثل مزار حزقيال (أبا الكفل) الذي هو مقدس لدى المسلمين ايضاً، وفوق مدخل قبره، تحمل البلاطات نقشًا عبريًا يقول: "هنا قبر سيدنا حزقيال". ويتوافد مئات الحجاج المسلمين إلى الأماكن المقدسة لتكريم هؤلاء الأنبياء في كل عام، إذ كان النبي حزقيال ينحدر من الحلة في وسط العراق، كما تضم مناطق العراق الأخرى مقامات النبي يونان في نينوى ودانيال في كركوك، وناحوم في القوش، وعزرا (العزير) في العمارة والعديد من الأنبياء والقديسين التوراتيين الآخرين ينحدرون من بلاد الرافدين أيضًا. يؤمن أتباع اليهودية بديانة توحيدية، وبإله واحد أظهر ذاته من خلال أنبياء قدماء، منهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وموسى، وسليمان، وغيرهم.
وخلال الحكم العثماني، شكّل اليهود 40% من سكان بغداد، وبلغ عددهم 150 ألفًا في عام 1948 عند تأسيس دولة إسرائيل. وكان بعضهم أعضاء بارزين في المجتمع، مثل ساسون حسقيل، أول وزير مالية للعراق عام 1920، والذي ترك انطباعًا كبيرًا لدى المغامرة والكاتبة البريطانية جيرترود بيل. ولكن خلال السنوات الثلاث التالية، غادر 96% منهم العراق، ونتيجةً للهجرة، الطوعية أحيانًا، والسياسيّة أحيانًا أخرى، توجّه معظم اليهود إلى الدولة العبرية، التي تؤوي حاليًا 220 ألف يهوديّ من أصل عراقيّ. لقد سُلبت الجنسية العراقية من يهود العراق قسراً، ويوجد أكثر من 450 ألف يهودي عراقي في الخارج، لا يحمل الجنسية العراقية منهم سوى أقل من عشرة أشخاص، في أعقاب عمليات التهجير اليهودية مطلع خمسينيات القرن الماضي، حُوّلت أضرحة أنبياء الكتاب المقدس عزرا وحزقيال ويونس إلى مساجد، واختفت مئات المعابد اليهودية، باستثناء كنيس مائير تويق في بغداد. وبمعجزة، نجا كنيس ساسون في الموصل، ولكنه تضرر بشدة. إن محاولة إحياء الذاكرة اليهودية للمدينة والمساعدة في إعادة بناء الكنيس أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، ومع ذلك، يُناصر بعض العراقيين الحفاظ على الذاكرة اليهودية في الموصل والعراق. وجدير بالحكومة العراقية أن تسعى إلى وضع الآثار اليهودية في العراق في قائمة ما تهتم به منظمة اليونسكو من آثار، لأنها ذات قيمة تاريخية ووطنية وثقافية إنسانية.
وللأسف انتهى وجود الجالية اليهودية في هذه البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين بعد احداث الفرهود (آخر أيار وأول حزيران 1941) واسقاط الجنسية العراقية عن أبناء هذا المكّون الأصيل، الذين ثبتوا في بلادهم عندما احتل قورش الفارسي بابل وخيّرهم بين المغادرة والبقاء، ولا يزال هناك تراث مادي وتاريخي هام يستحق الدراسة والتذكير به ومازالت هناك مواقع دينية وأثرية مقدسة ومتروكة لمعول الزمان ومهددة بالانقراض. وحددت الأبحاث التي أجراها أثاريون وأكاديميون 27 موقعًا لا تزال قائمة في العراق، ولكنها إما في حالة سيئة أو بالغة السوء ومعرضة للخطر والاندثار. وما يؤشر أهمية بلاد الرافدين في حياة اليهود نجد أن (تل أبيب) هو اسم مكان في بابل استوطنه اليهود بعد السبي، كما ورد في سفر حزقيال في عام 586 ق.م وأطلق اليهود هذا الاسم على البلدة التي دشنوها بجوار يافا عام 1909، للتعبير رمزيا عن انتهاء فترة الشتات.
نبذة من التاريخ العبري
يتجذر تاريخ أنبياء اليهود بعمق في جغرافية الأرض وبلاد ما بين النهرين/العراق ويرتبط العديد من أنبياء التوراة بالأضرحة المقدسة في العراق، التي يقدسها اليهود والمسيحيون والمسلمون ومنهم أنبياء التوراة، مثل عزرا ودانيال وحزقيال وناحوم ويونس. وكان في شمال وجنوب العراق العديد من الأضرحة المقدسة المنسوبة تقليديًا إلى أنبياء التوراة، مثل النبي يونس والنبي حزقيال، التي كان اليهود يزورونها، وخاصة خلال عيد الأسابيع (عيد الزيارة).
لقد نشأ التلمود البابلي في بلاد الرافدين، وفي القرون التي تلت جمعه في القرن الخامس، أصبح التلمود النص الأساسي لديانة اليهودية، جامعًا بين السوابق القانونية التقليدية، والمفاهيم الرئيسية، والأعراف والممارسات اليهودية. ومن القرن السادس إلى الحادي عشر، اشتهرت الأكاديميات العريقة في سورا وبومبيديتا، بدراساتها اليهودية، وارتقت باليهودية الحاخامية البابلية لتصبح النهج السائد في جميع أنحاء العالم اليهودي.
وبحسب التلمود، كان في اليهودية 48 نبيًا و7 نبيات. ويُعتقد أن آخر نبي يهودي هو ملاخي. ووفقًا للكتاب المقدس يُعتبر موسى أهم نبي في اليهودية، وكان معلمًا وقائدًا وأحد أهم أنبياء اليهودية والمسيحية والإسلام والبهائية وغيرها من الديانات الإبراهيمية.
وفي الشريعة العبرية، يُقسّم الأنبياء إلى :
1- الأنبياء السابقون (يشوع، القضاة، صموئيل، والملوك)
2- الأنبياء المتأخرون (إشعياء، إرميا، حزقيال)
3- الأنبياء الاثني عشر، أو الصغار: (هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا، وملاخي).
كما ويضم العراق عددا كبيرا من مراقد الأنبياء اليهود الكبار ومن بينهم مرقد النبي حزقيال في ناحية الكفل (جنوب الحلة)، وقبر عزرا في منطقة العزير. وحددت أبحاث أجراها أكاديميون 27 موقعًا في العراق لا تزال قائمة ومعرضة للخطر، وهي في حالة سيئة أو بالغة السوء. وفي أعقاب عمليات التهجير اليهودية في خمسينيات القرن الماضي، حُوّلت أضرحة أنبياء الكتاب المقدس عزرا (العزير) وحزقيال (ذو الكفل) ويونس (جونا) إلى مساجد، واختفت مئات المعابد اليهودية، باستثناء كنيس مائير طويق في بغداد. وبمعجزة، نجا كنيس ساسون في الموصل، لكنه تضرر بشدة.
المزارات اليهودية في العراق
بلاد الرافدين هي مسقط رأس النبي إبراهيم، وموطن العديد من الأنبياء، مثل يونان، وحزقيال، ودانيال، وعزرا، وناحوم، وحنينه (حنين بالعربية)، وآدم، ونوح، وهود، وصالح، وذو الكفل، وسليمان، وأيوب ولجميعهم مزارات فعلية في العراق، وفقًا للروايات الإسلامية والمسيحية واليهودية. وكان يهود العراق والمناطق المحيطة به يزورون مزارات أنبيائهم وأوليائهم، ويحيون ذكراهم في أعيادهم وفي مناسبات أخرى عُرفت هذه الزيارات بالزيارات الدينية. ووثّق الأثاريون والخبراء في تاريخ وجغرافية الأديان أماكن أهم المواقع اليهودية في العراق. ووثّقت الدكتورة وسن حسين محيميد، في كتاب نُشر عام 2009، تسع مزارات يهودية في العراق، وهناك المزيد من المزارات والمواقع التاريخية التي تستحق التوثيق.
وتتيح لنا مواقع واحجار هذه الكنيسات فهمًا أفضل ليس فقط لأهميتها بالنسبة للمجتمعات التي أسستها واستخدمتها على مر السنين، بل أيضًا لكيفية سعي المجتمعات اللاحقة إلى ترسيخ ذاكرتها وهويتها المشتركة بعد الهجرة المستمرة للأقليات خارج العراق. ولا غرابة ان تتحدث إلينا هذه الأحجار اليوم، وتقدم لنا فكرة على ثقافة وعادات وحياة مجتمع عريق جرفته تيارات النازية والصهيونية الحديثة، ودعاة القومية العربية. إذ تروي الأضرحة اليهودية قصة مجتمع يهودي متحضر ومتكامل من بلاد ما بين النهرين في قلب شبه الجزيرة العربية الإسلامية. ومن المؤسف أن الفوضى وتدمير المجتمع المتناغم هو امتداد لمرض ديني معدٍ يواصل انتشاره في العراق اليوم وفي السياسة المعقدة في الشرق الأوسط وبذلك اندثر مجتمع عراقي اصيل كان مزدهرًا في الماضي؛ فالكنيس الوحيد في بغداد لا يفتح إلا نادرًا، ولا يوجد فيه حاخامات. وأدناه الجزء الآول من المواقع اليهودية والمزارات التأريخية في العراق:
1- مقام عزرا الكاتب أو (العزير)
النبي عزرا (بالعبرية) أو العزير (بالعربية) أو عبد نجو (بالكلدانية) وهو أحد أنبياء اليهود الذين عوقبوا على يد الملك البابلي نبوخذ نصر بعد سبيهم وأُلقي في النار حسب الروايات العبرية القديمة. ويختلف المؤرخون في أصل هذا المقام، فمنهم من يعتقد أن النبي عزرا توفي في بابل، ومنهم من يعتقد أن النبي عزرا دُفن في مدينة العمارة جنوب العراق. عاش عزرا حوالي عام 480 إلى عام 440 قبل الميلاد ويعتبره الإسلام نبيًا مقدسًا. وورد ذكر عزرا في القرآن الكريم في آية التوبة (الآية 30)، حيث قال الله تعالى: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ عَزْرَا ابْنُ اللَّهِ".
يقع مقام النبي عزرا بن سرحيا (عزرا الكاتب) على ضفاف نهر دجلة في محافظة ميسان الجنوبية (العمارة) في قرية العزير على بُعد حوالي (100 كم) جنوب مدينة العمارة بين القرنة وقلعة صالح. ويُعتقد بأن هذا المقام بُني في القرن الحادي عشر الميلادي، وسُمي نسبةً إلى عزرا الكاتب المدفون هناك. وكان كثير من اليهود يزورونه كل عام، وخاصةً في عيد الأسابيع كما كان يحج إليه اليهود من جميع أنحاء العالم، ويتبركون به ويصلون فيه، ويزوره ايضاً كثير من المسلمين للصلاة فيه، وله حرمة عظيمة عندهم ولا يزال بعض العراقيين المسلمين يحملون ذكريات طيبة عن اليهود الذين عاشوا في العراق حتى خمسينيات القرن الماضي.
يُقال إن اليهود بنوا قبر النبي عزرا في العراق في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد خضع لتغييرات عديدة منذ ذلك الحين. وقد اتخذ المزار جوانب إسلامية عديدة. يحتوي المزار على نصوص عبرية ورموز يهودية وآيات قرآنية ونقوش إسلامية. وقد تحول إلى معلم إسلامي بعد الهجرة الجماعية ليهود العراق إلى إسرائيل في خمسينيات القرن الماضي. لقد صمد مزار عزرا لقرون في منطقة تسكنها أغلبية شيعية متدينة، على عكس مدرسة قريبة كانت في السابق كنيسًا يهوديًا، وتغيّرت معالمه بالكامل، بما في ذلك قبو تحت الأرض هُدم في ثمانينيات القرن الماضي أثناء عمليات الصيانة التي أجرتها وزارة الأوقاف.
لا توجد أي آثار لقصة عزرا في المرقد، وبدلاً من ذلك، تملأ الكتب الإسلامية والأدعية المكتوبة وصور الشخصيات الشيعية المكان إذ تهيمن الرموز الإسلامية على المكان تمامًا. ومع ذلك مازالت تُرى رموز يهودية وكتابات عبرية على جدران المكان ولوحة عبرية معلقة، ولكن أُزيلت بعض الرموز اليهودية، بما في ذلك نجمة داوود، في ثمانينيات القرن الماضي عن غير قصد أثناء عمليات الصيانة التي أجرتها وزارة الأوقاف في عهد صدام حسين.
يزور الناس المكان لتمسكهم بالمقدسات الدينية. وإن كان النبي عزرا يهوديًا، فهو جزء من الضمير الجماعي لأتباع الديانات التوحيدية الذين يُكرمون المخلص المرتبط بمعجزات شفاء عديدة، ويشاركهم في هذا الإيمان كثير من المسلمين. يُعدّ المكان اليوم وجهة دينية يمكن ترميمها كوجهة سياحية، وخاصةً لليهود العراقيين الذين هاجروا ويحنون إلى تاريخهم ستستفيد منهم مدينة العزير بالتأكيد وسيعزز هذا الترميم سياحتها الدينية، إذ يرحب أهالي المدينة بالزوار اليهود لهذا المقام، على الرغم من أنه حُوِّل إلى معلم إسلامي.
تجري حاليًا خطط إعادة إعمار من قِبل الحكومة المحلية في العزير بالتنسيق مع مديرية الأوقاف الشيعية، للحفاظ على طابعه اليهودي والإسلامي. بين عامي 1948 و1951، غادر أكثر من 121 ألف يهودي العراق إلى الأراضي المقدسة فيما يسمى بعملية عزرا ونحميا، حيث نقلت إسرائيل عشرات الآلاف من اليهود جواً في أعقاب الاضطهاد المكثف الذي مارسته الحكومة العراقية ضد اليهود، بعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948.
2- مقام حزقيال أو (ذو الكفل)
قبر النبي حزقيال هو مزار يهودي قديم محاط بمسجد إسلامي. والنبي حزقيال، المعروف في التقليد الإسلامي باسم ذو الكفل (ذُو ٱلْكِفْل) أي الضامن ، ويسمى في التقليد العربي المسيحي والفارسي باسم "حزقيال" (حسقیال أو حسقیل) وقد سُمي الكفل لأنه ضمن نجاة اليهود من السبي البابلي، ولأنه ضمن سلامة بني إسرائيل من سبي البابليين. يعتبر قبر حزقيال شهادة على التنوع الديني في العراق، وعلى مدى قرون، كان مكانًا للحج المشترك لليهود والمسيحيين والمسلمين. وكان اليهود من أقصى الأماكن يزورونه للصلاة والدعاء، وخاصةً في رأس السنة ويوم الكفارة، وتُقام فيه احتفالات سنوية كبيرة. ولم يجرؤ أي يهودي أو مسلم على سرقة أو تدنيس مرقد حزقيال لقدسيته، حتى في الحروب. ولكن مع ذلك، تراجع الوجود اليهودي في الموقع منذ خمسينيات القرن الماضي، وأُعيد تطويره بعد غزو العراق عام 2003.
جُلب النبي حزقيال أسيرًا من مملكة يهوذا الإسرائيلية إلى بابل، العراق، عام 597 قبل الميلاد، ويُطلق المسلمون على النبي اليهودي حزقيال اسم "ذو الكفل" وأصبح قبره مزارًا للمسلمين وقد ذُكر ذو الكفل في القرآن الكريم في سورة الأنبياء، الآية 85: "وإسماعيل وإدريس وذو الكفل كلٌّ من الصابرين"، وفي سورة ص، الآية 48: "واذكر إسماعيل وأليشع وذو الكفل كلٌّ من الأخيار. كما ويقول الكتاب المقدس: "وكانت كلمة الرب إلى حزقيال الكاهن ابن بوزي في أرض الكلدانيين عند نهر خابور، وهناك كانت يد الرب عليه".
على ضفاف نهر الفرات، وعلى بُعد 20 ميلاً جنوب الحلة، و77 ميلاً جنوب بغداد تقع ناحية الكفل في منطقة ذات أغلبية شيعية، وتضم مقام وضريح نبي العهد القديم حزقيال. وهو مبنى كبير يضم 60 صومعة، لكل منها برج، وعلى بُعد حوالي نصف ميل من المقام توجد قبور ومبانٍ يهودية اخرى. يقع المقام في غرفة جميلة ذات جدران قديمة مغطاة بالكتابات العبرية، ويضم مقامًا ومقابر أخرى لأنبياء يهود، ويحمل مدخل المقام نقشًا بالعبرية يقول: "هذا قبر سيدنا حزقيال النبي، ابن بوزي الكاهن، الذي يحمينا ببركاته، ويحمي جميع بني إسرائيل المؤمنين".
وكانت الكفل من أهم أماكن الحج لليهود والمسلمين، وخاصة الشيعة، حتى النصف الأول من القرن العشرين، إذ يُمكن للمرء أن يرى ناحية الكفل، التي تضم ضريح يُعتقد أنه موقع دفن النبي التوراتي حزقيال، وهو شخصية بارزة في التاريخ اليهودي ومعروف بنبوءاته خلال فترة السبي البابلي التي شهدت تهجير الشعب اليهودي قسراً من أرض إسرائيل ونقله إلى بابل. عاش حزقيال وبشر اليهود في المنفى على ضفاف بابل في عهد نبوخذ نصر. وفي ذلك الوقت، دوّن رؤاه النشوانية في القرن السادس قبل الميلاد، وكان بإمكان السكان المحليين بالفعل تتبع تاريخهم إلى 2500 عام.
يُنسب إلى حزقيال تأليف سفر حزقيال، وهو مشهور بنبوءاته الواضحة والعميقة التي قدمت الدعم الروحي لإسرائيل خلال فترة السبي. ومن أشهر نبوءاته رؤية "وادي العظام اليابسة"، التي ترمز إلى إحياء إسرائيل، ووصفه الواضح لـ"المركبة الإلهية"، التي أثرت على التصوف اليهودي منذ ذلك الحين. وكما هو الحال مع غيره من الأنبياء والقديسين، كُرِّست أضرحة متعددة لحزقيال في أماكن متعددة، فهناك ضريح ثانٍ في بابل، وثالث في بلاد فارس. ولكن لم يتم توثيق أي منهما بشكل جيد كما في مثل مرقد الكفل، لأنه كان مركز حج إقليمي يجذب اليهود والمسلمين من أماكن بعيدة مثل شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية، حيث جذبتهم قدسية المكان وسمعته في تحقيق الدعاء وعلاج الأمراض المختلفة.
ضريح حسقيال في ناحية الكفل
الكفل بلدة عراقية عادية، باستثناء شيء واحد: الكنيس الذي يُضفي عليها هويتها. في أسفل زقاق سوق الكفل الضيق، عبر ممر صغير مُغطى ببلاط فيروزي هندسي، يقع ضريح النبي حزقيال المذكور في الكتاب المقدس. يُعد ضريح حزقيال أحد تلك الأماكن النادرة والجميلة التي تتداخل فيها اللغتان العربية والعبرية بحرية، مُذكرًا بالتاريخ الطويل لليهود العراقيين على هذه الأرض.
يُعتقد أن الضريح يعود إلى القرن السادس، عندما عاش اليهود في أرض كانت مزيجًا من المجتمعات المسيحية والزردشتية والمانوية والمندائية والوثنية. عندما دخل الإسلام العراق، أضاف ضريح حزقيال زوارًا مسلمين إلى هذا المزيج. كان هذا نمطًا سائدًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث استمر المسلمون، سواء من الجيوش الإسلامية أو من السكان المحليين الذين اعتنقوا الإسلام لاحقًا، في تبجيل الأماكن المقدسة المحلية، وخاصة قبور شخصيات من التراث الإبراهيمي. كان مجمع المقابر، الذي يضم كنيسًا يهوديًا ومزينًا بنقوش عبرية قديمة، وجهةً مهمةً للحج لقرون، يحظى بتبجيل اليهود والمسلمين المحليين. لا يُبرز هذا الموقع الصلة الخاصة التي تربط يهود العراق بنبيهم المحلي حزقيال فحسب، بل يعكس أيضًا الاحترام العميق الذي تكنّه الجماعات الدينية العراقية للأماكن المقدسة اليهودية في العراق، وهو تقليد لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا. كان المسلمون يُبجّلون العديد من أنبياء اليهود، ويُعد قيام المسلمين الشيعة بالصلاة وتقديم الاحترام في موقع حج يهودي تذكيرًا واضحًا بمدى عالمية تراث العراق في الماضي.
يقع القبر في غرفة جميلة ذات جدران قديمة مغطاة بكتابات عبرية، ويضم ضريحًا ومقابر أخرى لأنبياء يهود. يحمل مدخل الضريح نقشًا بالعبرية يقول: "هذا قبر سيدنا، يحزقيال النبي، ابن بوزي الكاهن. ببركاته، يحمينا ويحمي جميع بني إسرائيل المؤمنين". كانت قبة القبر تحمل آثارًا نباتية مرسومة تعود إلى ماضٍ غير إسلامي تمامًا. كما أن النص الممتد على الجدران لا علاقة له بالخط العربي المتدفق الذي يزين معظم المساجد في الشرق الأوسط. كان مكتوبًا بالعبرية. إن الجسد الذي يرقد في القبر الذي كان هذا المسلم المتدين يقدسه هو جسد النبي حزقيال. وحتى 50 عامًا فقط، كان المبنى الذي يحميه، والذي سجله لأول مرة حاج يهودي في القرن الثاني عشر، كنيسًا يهوديًا. كان اليهود من أقصى البلاد يزورون الموقع للصلاة والدعاء، وخاصة في يوم رأس السنة ويوم الكفارة، وفي تلك الأيام، كانت تُقام الاحتفالات. ويشير المؤرخ تسفي يهودا إلى أن الرحالة اليهودي الشهير بنيامين التطيلي زار الموقع عام 1170؛ وفي ذلك الوقت، كان اليهود يقومون بالحج في الخريف بين رأس السنة اليهودية (روش هاشناه) ويوم الكفارة (يوم كيبور). لم يقتصر الأمر على تعبد اليهود والمسلمون جنبًا إلى جنب في هذا الموقع لقرون، بل أثرت ممارساتهم أيضًا على بعضهم البعض.
يُعدّ الحج وزيارة ضريح حزقيال (ذو الكفل) في العراق فريدًا من نوعه، إذ حُفظت فيه بعضٌ من أكثر الروايات التاريخية تفصيلًا. وكان الحجّ أهمّ ما في التقويم الطقسي لليهود العراقيين؛ إذ يبرز في مذكراتهم وسيرهم الذاتية وذكرياتهم. في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان اليهود العراقيون يؤدّون الحجّ، المعروف بالمصطلح العربي "زيارة"، سنويًا إلى ضريح حزقيال في عيد الأسابيع، الذي يلي عيد الفصح (عيد الفصح اليهودي) في أواخر الربيع. وكان الحجاج اليهود يأتون من بغداد والحلة، التي هي موطن جاليات يهودية كبيرة. ولغاية أوائل خمسينيات القرن الماضي، كان قبر حزقيال وجهة حج شعبية، يجذب اليهود من أماكن بعيدة مثل كلكتا في الهند وايران.
وكان المسلمون يشتاقون إليه أيضًا: فعلى بُعد 20 ياردة من الضريح، فوق أنقاض مسجد آخر، تقف مئذنة ذات واجهة من الطوب - بُنيت قبل أكثر من 1000 عام. وادّعى رئيس بلدية الكفل في أواخر القرن التاسع عشر أن هذا دليل على أن الضريح مكان مقدس إسلامي، لأن اليهود لم يبنوا مآذن. وأرسل السلطان التركي، الذي حكم المنطقة آنذاك، فريقًا من المسؤولين من بغداد أولًا، ثم لجنة من إسطنبول للوصول إلى حقيقة الأمر. جلس كلا الفريقين في ظل البرج العتيق (الذي يميل اليوم بشكل مثير للقلق)، وجمعوا تقارير تفيد، على عكس ادعاءات رئيس البلدية، بأنهم لم يروا أي أثر لمئذنة.
تشير السجلات التاريخية إلى أنه بعد انهيار جزء من المسجد في فيضان في القرن الثامن عشر، سمحت السلطات العثمانية لليهود بإجراء إصلاحات كبيرة فاستغل قادة الجالية اليهودية الفرصة لتحويل جزء كبير من المسجد إلى كنيس، وإزالة الرموز الإسلامية وبناء مدرسة دينية يهودية وفي مقابل ذلك، مُنحت العشائر المسلمة المحيطة بالناحية دور حماية الضريح. وابتداءً من خمسينيات القرن التاسع عشر، بدأ اليهود من جميع أنحاء العراق ببناء منازل ومؤسسات دينية لاستضافة الحجاج في الكفل.
وكان دور الكفل في المجتمع اليهودي مماثلاً لدور مدينتي كربلاء والنجف المقدستين القريبتين للمسلمين الشيعة، إذ أصبحتا مركزين للحياة الدينية الجماعية التي ازدهرت خلال موسم الحج مع وصول الحجاج من جميع أنحاء المنطقة. ولا يُخبر الحجاج المسلمون عن حزقيال، بل يخبرون بأن هذا هو موقع دفن النبي ذو الكفل، وهو نبي صغير مذكور في القرآن.
. يُذكر حزقيال في الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية والإسلامية على حد سواء، مما يُذكر بالجذور الإبراهيمية المشتركة للأديان الثلاثة ولذلك لن يجرأ أي يهودي أو مسلم او مسيحي على سرقة أو تدنيس مرقد حزقيال، حتى أثناء الحروب. ومع ذلك، فقد انخفض الوجود اليهودي في الموقع منذ خمسينيات القرن العشرين، وأُعيد تطوير المجمع منذ غزو العراق عام 2003. داخل الحرم الداخلي، وحول الضريح نُقشت اللغة العبرية على ألواح خشبية ورُسمت على نقوش على كل جانب من جوانب القبر. أما التابوت نفسه، فقد غُطي بكتابات عربية تدعو بالسلام على النبي. وبينما يُسعدنا معرفة أن بعض الزخارف اليهودية الأصلية والنقوش العبرية لا تزال موجودة حول حجرة الدفن، إلا أن القبر أصبح مُسلمًا بشكل متزايد، ويصبح التاريخ اليهودي للضريح أقل وضوحًا، حيث يؤكد المرشدون السياحيون على الماضي الإسلامي للموقع، ولكن النقوش العبرية في الحرم الداخلي تروي قصة مختلفة، وهي تذكير بقرون من الوجود اليهودي والحياة المشتركة مع الجيران المسلمين في جميع أنحاء العراق. وفي الكفل، يتذكر كبار السن اليهود وطقوسهم، على الرغم من الجهود الرسمية لطمس ذكراهم وتشويهها.
قبر حزقيال ليس مجرد تذكير بالتاريخ القديم، بل هو شهادة على التنوع الديني الذي استمر حتى القرن العشرين. فقد وُجدت مجتمعات يهودية بين المسيحيين والمسلمين والأزديين والمندائيين والزرادشتية وغيرهم في جميع أنحاء العراق.
مدير أموال الإمام علي (رض) 3- مقام الحاخام المنسي إسحاق جعوون
لا تتوفر معلومات كثيرة عن الحاخام إسحاق غاؤون، الذي برز في العصر الجاعوني، المعروف أيضًا بعصر المعاهد البابلية للحاخامات. ويُرجّح أن مصطلح "غاؤون أو جعوون" يشير إلى منصبه كرئيس لإحدى هذه المعاهد وقد ذُكر اسمه في القرن العاشر الميلادي على يد حاخام آخر، روى قصةً لم تُذكر في أي مكان آخر. ولا يُعرف أي شيء آخر عن الحاخام إسحاق، ولا حتى آرائه الدينية. وأصبح مقامه مزارًا للمسلمين والمسيحيين واليهود الذين كانوا يلتمسون البركات ويطلبون منه النذور وكان الموقع يضم في السابق كنيسًا ومدرسة، ولكنه الآن يقتصر على غرفة صغيرة تضم القبر. وقبل عقود، كان الناس يزورون للصلاة وإضاءة الشموع، مؤمنين بقدرة الحاخام على الشفاء ويأتون "للدعاء لمرضاهم، أو طلب مولود، أو إطلاق سراح سجين". وكانت النساء ينقعن أنفسهن في ماء بئر الضريح، على أمل الحمل والولادة.
كان الغاؤوني رجلاً يهوديًا صالحًا عمل محاسبًا وصرافًا في عهد الإمام علي بن أبي طالب عندما فتح الخليفة الإمام علي بن أبي طالب مدينة فيروز - شابور، عام (658 م)، ويعد مقام إسحاق الجاعوني أقدم كنيس يهودي في جانب الرصافة في بغداد، ويعتقد علماء الآثار أن هذا المدفن الواقع في سوق حنون القديم ببغداد في حي قنبر علي (محلة التوراة)، أو سوق حنون اليهودي أو (الحنوني)، كما كان يسميه يهود بغداد يعود للشيخ إسحاق (جاؤوني او جاعوني) كما مدون على باب مرقدِهِ أي أن عمر المرقد يزيد عن 1400 عام، وتذكر المصادر أنه عندما فتح الخليفة الإمام علي بن أبي طالب مدينة فيروز - شابور، عام (658م)، وخلال إحدى فتوحاته في وسط العراق استقبله جميع سكانها اليهود، وعددهم 90 ألف نسمة، وعلى رأسهم رئيس اليشيبة السيد رباني إسحق، الذي أصبح بعد هذا الاستقبال مديرًا لأموال الخليفة و(محاسب الإمام علي) . وللأسف، سُرقت جميع الكتابات والآثار والمخطوطات العبرية من هذا الموقع.
وبغض النظر عن صحة هذه الرواية، فأن المكان كان في السابق مزارًا للمسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء، يتبركون به ويطلبون منه النذور. وذكر الباحث يوسف رزق الله غنيمة في كتابه "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق" الصادر عام 1922م، أنه زار المكان بنفسه، وقال "في العاشر من شباط 1920م، زرنا المكان ودخلنا فوجدنا غرفة مربعة الشكل، سقفها مغطى بالطوب، وأرضيتها مرصوفة بالقرميد الأبيض والأزرق، وفي وسطها مصطبة من الطين، خشبها مرتفع عن الأرض ومفروشة بقماش فاخر مذهب، مما يضفي على المكان هيبة، وتحت تلك المصطبة يرقد ربان إسحاق، وفوق المقام سراج يضاء ليل نهار. ولما غادرنا الغرفة، رأيت فوق بابها حجرًا رخاميًا منقوشًا عليه بالخط العبري: (تاريخ المرحوم الربان إسحاق الغوني، المتوفى سنة 620م بخراب بيت المقدس)".
فاليوم وعند باب المرقد المصبوغ بالأخضر -لون القداسة في المخيل الشعبي- ستجد خيوطاً وقطعاً من شرائط الأقمشة بألوانها المختلفة تلتف حول مقبضه الفولاذي، وتحيطه شموع وزهور بلاستيكية وضعها بعض الزوار والنساء ممن يتبركون بالمرقد ويضعون الحناء على الباب لتقديم النذور والتضرّع من أجل تحقيق الأماني والحاجات. وكانت النساء ترفع أكفها وهي تطرق هذا الباب بتمهل وتردّد، لعلها تسمع ترحيباً من داخل المرقد، أو جواباً لسؤال، وتشعر أن الكثير من أصوات قاصدي المرقد القدامى ما زالت عالقة في نتوءات الضريح التي حفرها الزمن، وشاهدة على حياة زائلة. ومنذ عام 2003، ظلت أبواب المرقد اليهودي موصده، وتوارت معالمه بين السكان الجدد، وأصبح مقرّ المرقد في غاية الإهمال، وأصبحت ساحته الخارجية مكبًا للقمامة ممّا يتناقض مع مبدأ احترام حرمة الميّت الذي تؤمن به كل الديانات السماوية وعلى الدولة حماية وترميم وصيانة هذه المراقد باعتبارها مواقعا تراثية مهمة ومزارات لكل مكونات العراق.
قبل أشهر، كان قبر الحاخام إسحاق جاعوني في حالة خراب - مليئًا بالحطام، وبابه مغلق صدئ، ونوافذه مكسورة، وجدرانه مظلمة بسبب سنوات من الهجر. أما القبر الصغير سابقًا، فهو مغطى ببلاط رخامي لامع. في المنتصف، يوجد شاهد قبر كبير نُقش عليه اسم الحاخام، وآية مقدسة، وسنة وفاته: 688. وخلفه، يُعلق شمعدان فضي على الحائط..
تختلف الطوائف الدينية على احقية المزار ومازال موقع هذا المقام محل نزاع بين الطوائف الدينية، وكل جهة دينية، سواء مسلمة أو يهودية، تدّعي أن القبر ملك لها، بعضهم يقول إنه لرجل يهودي بصفته حاخامًا، وآخرون يقولون إنه لرجل مسلم وتقي، ومنذ عام 2003، بقيت أبواب المقام اليهودي مغلقة، واختفت معالمه بين السكان الجدد، بعد أن كان المرقد مزارا لليهود، الذين كانوا يتبركون به، حيث أقيم بجواره كنيسًا إلى جانب مدرسة دينية يهودية، وقد تم ذكر هذا الكنيس من قبل كل من سافر إلى العاصمة بغداد.
وتجري اليوم جهود ترميم الحكومة العراقية لترميم الموقع التاريخي. ولاستعادة تراثهم، يمول المجتمع اليهودي مشروع ترميم ضريح الحاخام بتكلفة 150 ألف دولار بعد عقود من الإهمال. ويعمل العمال على ترميم ضريح حاخام مُبجّل يعود تاريخه إلى قرون مضت، لإحياء تراث المجتمع اليهودي العراقي الذي تلاشى منذ زمن طويل.
في الجزء الثاني والثالث من هذه المقالة سنتناول مزارات ومراقد أخرى للأنبياء اليهود.
المصادر: موسوعة ويكيبيديا، موقع كًاردينيا، يورو نيوز، فرانس بريس، "المزارات اليهودية في العراق" للدكتورة وسن حسين محيميد، "ذكريات عدن" لفيوليت شمش، "يهود العراق (تاريخهم وأحوالهم وهجرتهم)" ليعقوب يوسف كورية، "الشوق إلى تاريخ يهود العراق" (نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق، نُشر عام ١٩٢٢) ليوسف رزق الله غنيمة، "تاريخ يهود العراق في القرن العشرين" لمير بصري، "بغداد الأمس - صناعة يهودي عربي" لساسون سوميخ، مقالات الكتاب عمر فرهادي وأدون شكر.