الراعي‭ ‬الصالح‭ ‬الذي‭ ‬غادرنا‭ ‬بصمت

سيرة‭ ‬المطران‭ ‬الراحل‭ ‬مار‭ ‬بولس‭ ‬ثابت‭ ‬المكو
†‭ ‬‮١٩٧٦‬‭-‬‮٢٠٢٥‬

حنّان‭ ‬قيّا

في‭ ‬صباح‭ ‬الثلاثاء،‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬حزيران‭ ‬2025،‭ ‬خيّم‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬بلدة‭ ‬ألقوش،‭ ‬وامتدّ‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬كلداني‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والمهجر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬عن‭ ‬وفاة‭ ‬سيادة‭ ‬المطران‭ ‬مار‭ ‬بولس‭ ‬ثابت‭ ‬حبيب‭ ‬المكو،‭ ‬راعي‭ ‬أبرشية‭ ‬ألقوش‭ ‬الكلدانية،‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬49‭ ‬عامًا،‭ ‬قضاه‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الإيمان‭ ‬والكنيسة،‭ ‬ورافق‭ ‬فيه‭ ‬شعبه‭ ‬في‭ ‬السراء‭ ‬والضراء‭.‬

من‭ ‬كرمليس‭ ‬إلى‭ ‬الكهنوت

وُلد‭ ‬مار‭ ‬بولس‭ ‬ثابت‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬كرمليس‭ ‬عام‭ ‬1976،‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬“كدو”‭ ‬الكرمليسية‭ ‬العريقة،‭ ‬التي‭ ‬استقرّت‭ ‬في‭ ‬البلدة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1830‭. ‬أكمل‭ ‬دراسته‭ ‬الابتدائية‭ ‬والثانوية‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه،‭ ‬ثم‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬بكالوريوس‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬الأرض،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُلبي‭ ‬دعوة‭ ‬الرب‭ ‬إلى‭ ‬الكهنوت‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬2002،‭ ‬التحق‭ ‬بمعهد‭ ‬شمعون‭ ‬الصفا‭ ‬الكهنوتي‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬مسيرته‭ ‬التكوينية‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬2005،‭ ‬أُوفد‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬لمواصلة‭ ‬دراسته،‭ ‬فحصل‭ ‬على‭ ‬بكالوريوس‭ ‬في‭ ‬اللاهوت،‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬ماجستير‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬آباء‭ ‬الكنيسة‭.‬

كاهن‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المحنة

نال‭ ‬السيامة‭ ‬الكهنوتية‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬تموز‭ ‬2008‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬مار‭ ‬أدي‭ ‬–‭ ‬كرمليس،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مثلث‭ ‬الرحمة‭ ‬البطريرك‭ ‬مار‭ ‬عمانوئيل‭ ‬دلي‭. ‬خدم‭ ‬في‭ ‬بلدته‭ ‬حتى‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬حين‭ ‬اجتاح‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش‭ ‬الإرهابي‭ ‬مناطق‭ ‬سهل‭ ‬نينوى،‭ ‬فاضطر‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬إلى‭ ‬النزوح‭.‬

حينها،‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬الخورأسقف‭ ‬ثابت‭ ‬حبيب،‭ ‬بل‭ ‬انتقل‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬شعبه‭ ‬إلى‭ ‬عنكاوا‭ ‬–‭ ‬أربيل،‭ ‬وبدأ‭ ‬منذ‭ ‬7‭ ‬آب‭ ‬2014‭ ‬بخدمة‭ ‬النازحين‭ ‬من‭ ‬سهل‭ ‬نينوى‭ ‬والموصل،‭ ‬روحيًا‭ ‬وإنسانيًا‭. ‬وكان‭ ‬وجوده‭ ‬بجانبهم‭ ‬مصدر‭ ‬عزاء‭ ‬وقوة،‭ ‬فبقي‭ ‬يخدمهم‭ ‬حتى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬كرمليس‭ ‬بعد‭ ‬التحرير‭.‬

من‭ ‬الأسقفية‭ ‬إلى‭ ‬المطرانية

في‭ ‬آب‭ ‬2021،‭ ‬اختاره‭ ‬السينودس‭ ‬الكلداني‭ ‬أسقفًا‭ ‬معاونًا‭ ‬لأبرشية‭ ‬ألقوش،‭ ‬وأُعلن‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬آب‭. ‬نال‭ ‬السيامة‭ ‬الأسقفية‭ ‬في‭ ‬22‭ ‬تشرين‭ ‬الأول‭ ‬2021‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬غبطة‭ ‬البطريرك‭ ‬الكاردينال‭ ‬لويس‭ ‬روفائيل‭ ‬ساكو‭. ‬ثم‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬2022،‭ ‬تم‭ ‬تنصيبه‭ ‬مطرانًا‭ ‬أصيلاً‭ ‬لأبرشية‭ ‬ألقوش،‭ ‬وسط‭ ‬حضور‭ ‬شعبي‭ ‬كبير‭.‬

راعٍ‭ ‬أمين‭ ‬وحارس‭ ‬للهوية

منذ‭ ‬لحظة‭ ‬تسلمه‭ ‬المطرانية،‭ ‬حمل‭ ‬المطران‭ ‬الراحل‭ ‬همَّ‭ ‬الهوية‭ ‬الكلدانية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أشدّ‭ ‬الغيورين‭ ‬على‭ ‬الطقس‭ ‬الكلداني‭ ‬الأصيل،‭ ‬وعلى‭ ‬لغة‭ ‬الكنيسة‭ ‬وتراثها‭ ‬وتراتيلها‭ ‬ومواسمها‭. ‬وكان‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬المبادرات‭ ‬الهادفة‭ ‬لحفظ‭ ‬التراث‭ ‬الكنسي‭ ‬والشعبي‭ ‬في‭ ‬ألقوش‭.‬

شارك‭ ‬المؤمنين‭ ‬في‭ ‬مهرجانات‭ ‬الأعياد‭ ‬والمواكب‭ ‬الكنسية،‭ ‬وكان‭ ‬حضوره‭ ‬مؤثرًا‭ ‬وصوته‭ ‬مألوفًا‭ ‬في‭ ‬التراتيل‭ ‬والمناسبات،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬محبوبًا‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الأبرشية‭ ‬بكل‭ ‬أطيافهم‭.‬

حضور‭ ‬أبوي‭ ‬في‭ ‬المهجر

زار‭ ‬سيادته‭ ‬مؤسسة‭ ‬الجالية‭ ‬الكلدانية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬خلال‭ ‬خدمته،‭ ‬حيث‭ ‬التقى‭ ‬بأبناء‭ ‬المهجر،‭ ‬واستمع‭ ‬لهم‭ ‬ورافقهم‭ ‬روحيًا‭. ‬وكان‭ ‬يحمل‭ ‬همّ‭ ‬الوطن‭ ‬والكنيسة‭ ‬في‭ ‬قلبه،‭ ‬ويؤمن‭ ‬أن‭ ‬الشراكة‭ ‬بين‭ ‬الداخل‭ ‬والمهجر‭ ‬هي‭ ‬امتداد‭ ‬واحد‭ ‬لجسد‭ ‬المسيح‭.‬

وداعٌ‭ ‬مهيب‭ ‬وصدى‭ ‬واسع

في‭ ‬الخميس‭ ‬19‭ ‬حزيران‭ ‬2025،‭ ‬أُقيم‭ ‬قداس‭ ‬الجنازة‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬ألقوش‭ ‬عند‭ ‬الساعة‭ ‬11‭ ‬صباحًا،‭ ‬ترأسه‭ ‬غبطة‭ ‬البطريرك‭ ‬الكاردينال‭ ‬لويس‭ ‬روفائيل‭ ‬ساكو،‭ ‬رئيس‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكلدانية‭ ‬الكاثوليكية‭. ‬وبعده‭ ‬نُقل‭ ‬جثمانه‭ ‬إلى‭ ‬كرمليس،‭ ‬حيث‭ ‬وُري‭ ‬الثرى‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬الساعة‭ ‬الرابعة‭ ‬عصرًا،‭ ‬بحضور‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬كرمليس‭ ‬وألقوش‭ ‬وسهل‭ ‬نينوى‭.‬

نعت‭ ‬الكنائس‭ ‬والمسيحيون‭ ‬العراقيون‭ ‬جميعًا‭ ‬المطران‭ ‬الراحل،‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬العزاء‭ ‬مؤمنون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬المكونات‭ ‬العراقية،‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬المحبة‭ ‬والمكانة‭ ‬التي‭ ‬احتلها‭ ‬المطران‭ ‬في‭ ‬القلوب‭.‬

إرث‭ ‬باقٍ‭ ‬إلى‭ ‬الأبد

برحيله،‭ ‬فقدت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكلدانية‭ ‬راعيًا‭ ‬وأبًا‭ ‬وأخًا‭ ‬وصوتًا‭ ‬هادئًا‭ ‬للثبات،‭ ‬لكنها‭ ‬كسبت‭ ‬إرثًا‭ ‬روحيًا‭ ‬وراعويًا‭ ‬سيبقى‭ ‬يثمر‭ ‬في‭ ‬ألقوش‭ ‬وسهل‭ ‬نينوى‭.‬

غادرتنا‭ ‬على‭ ‬الأرض‮…‬‭ ‬لكنك‭ ‬باقٍ‭ ‬في‭ ‬قداديسنا،‭ ‬في‭ ‬مواكبنا،‭ ‬وفي‭ ‬لغة‭ ‬صلاتنا‭.‬

الراحة‭ ‬الأبدية‭ ‬أعطه‭ ‬يا‭ ‬رب،‭ ‬والنور‭ ‬الدائم‭ ‬فليشرق‭ ‬له‭.‬

ليكن‭ ‬ذكره‭ ‬مؤبداً‭.‬