أنبياء اليهود في بلاد الرافدين – مواقع ومراقد وقصص وأساطير- الجزء الثالث

بقلم د عضيد ميري

ركزت المقالات حول المقامات اليهودية المقدسة في العراق (الأجزاء الأول والثاني والثالث) على تسليط الأضواء على تاريخ ومحنة الأقليات العرقية الأصيلة في العراق، التي كانت تمارس حقوقها المدنية والدينية في البداية وكذلك المؤامرات التي استهدفت الجالية اليهودية وأجبرتها على الهجرة إلى إسرائيل، فضلًا عن تهجير المسيحيين والمندائيين واليزيدين بعدهم وبعثرتهم حول العالم.

الجالية اليهودية العراقية ازدهرت لأكثر من 2500 عام في بلاد الرافدين، ثم شهدت نزوحًا كاملاً بسبب مجموعة من العوامل، منها الاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي والتمييز في القوانين التي رسخت التفرقة وروح العنصرية والاستبداد. إذ بعد سبعة عقود من نزوحهم الجماعي، لا تزال قصة رحيل يهود العراق غير واضحة، حتى داخل الجالية المُهجّرة نفسها. فبعد وجودٍ متواصلٍ لألفي عام ونصف في بلاد ما بين النهرين، أصبحت الحياة مستحيلة لهم في أعقاب دوامة تاريخية تولدت من صراعات قوى سياسية محلية طاغية وأيديولوجيات دولية متضاربة، حيث أدى سقوط الإمبراطورية العثمانية، وما تلاه من حكم الاستعمار البريطاني، وظهور الحركات القومية اليهودية والعربية، إلى ضغوط سياسية داخلية وخارجية على المجتمع اليهودي العراقي مما أدى الى دفعهم في اتجاهين متعاكسين، انتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا ضحايا للأيديولوجيات المتحاربة.

بالنسبة لدولة العراق الناشئة أدت تلك الكارثة التأريخية إلى خسارة وفقدان تراث ثقافي غني، ونزوح أعداد كبيرة من السكان المنتجين والمتعلمين، ورحيل مواطنين نابضين بالحياة، وتدهور الهياكل الدينية والمؤسسات الاجتماعية، بما في ذلك المعابد اليهودية والمدارس والمواقع الدينية.

في هذا الجزء الثالث والأخير سنتناول خمسة مواقع يهودية:

11- كنيس مئير طويق في بغداد يتعرض تاريخ الجالية اليهودية العراقية، التي كانت نابضة بالحياة في الماضي، وهي من أقدم الجاليات اليهودية في العالم، لخطر جسيم بسبب عقود من الصراع وعدم الاستقرار السياسي والإهمال للمواقع التاريخية، مثل المعابد والمدارس، التي مازالت تتدهور أو تُدمر، وقد فُقد الكثير بالفعل بسبب الاستيلاء أو البيع الا مشروع أو التدهور البطيء والتقادم والانهيار.

ففي حي مزدحم بالعاصمة العراقية يقف كنيس مئير طويق كجوهرة متألقة وسط النسيج البشري النابض بالحياة لمنطقة البتاويين ببغداد، ليس فقط مكانًا للعبادة، بل أيضًا شهادة على صمود الجالية اليهودية في المنطقة. وللأسف اختفت الحياة في هذا الكنيس الذي كان مزدهرًا في الماضي؛ إذ لا يفتح الكنيس الوحيد في بغداد ابوابه إلا نادرًا، ولا يوجد فيه حاخامات ولا ما يُميز هذا المبنى الطابوقي الباهت، سوى نقش عبري فوق المدخل.

لقد شُيّد كنيس مئير طويق بين الأعوام 1942-1946. وسُمي على اسم مئير طويق، رجل الأعمال اليهودي من بغداد، وفي تلك الفترة، كان للعراق جالية يهودية مزدهرة تضم 150 ألف شخص، يعيش معظمهم في بغداد. وكان الكنيس بمثابة مكان رئيسي لعبادة يهود بغداد ويأسر بهائه المعماري زواره بمزيجه المتناغم من التفاصيل الدقيقة والتصميم المزخرف والطابع البغدادي الأثري العتيق.

ولم يُبنَى كنيس مئير طويق في بغداد على يد فرد واحد، بل على يد الجالية اليهودية المقيمة في بغداد آنذاك. إذ يُمثل إنشاء الكنيس جهدًا جماعيًا يعكس الروح الجماعية والتفاني لدى يهود بغداد وعادةً ما ينطوي البناء على تعاون داخل المجتمع، حيث يساهم الأعضاء بالموارد والأموال والعمالة وقد يكون لأفراد معينين دور قيادي لإقامة هذه الأماكن المقدسة. يقع الكنيس في حي البتاويين، الذي كان سابقًا الحي اليهودي الرئيسي في بغداد، وتأسس في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، وسكنه بقية السكان البغداديين من مسيحيين وإسلام لاحقًا بعد أحداث الفرهود عام 1941.

يُشبه دخول كنيس مئير طويق في بغداد دخول عالم من الجمال السامي والتبجيل الروحي. إذ تُحيط عظمة أعمدة البناء الداخلية الشاهقة المكونة من طابقين بالزوار، وهو معروف ببنائه المزخرف ويُمثل كل عمود شهادة على قوة ومرونة المجتمع الذي يخدمه الكنيس. وتبدو الجدران المزينة بدرجات اللون الأزرق السماوي وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية، مما يخلق جوًا أثيريًا يتجاوز الاهتمامات الدنيوية. وعندما يقترب المرء من خزانة التوراة المقدسة، تتجلى براعة الصنع الدقيقة في كل تفصيل وكل خطوة تؤدي إلى هذا المستودع الموقر تشهد على مهارة الحرفيين، بزخارف دقيقة منحوتة بإتقان في الخشب، تدعو المصلين للتوقف والتأمل في قدسية المكان.

داخل حدود هذا المكان المقدس تكمن كنوز ذات أهمية ثقافية ودينية هائلة تقف رموزًا خالدة للإخلاص والتقاليد، منها مخطوطات التوراة المكتوبة بخط بديع على جلد الغزال وهي محفوظة داخل خزانة مصممة بدقة، إذ تشهد هذه المخطوطات على قرون من التراث الروحي والصمود والوطنية. تحمل اللوحات الرخامية التي تزين جدران الكنيس صورًا محفورة لشمعدانات سباعية الفروع ومزامير مقدسة، بمثابة تذكارات مؤثرة بإيمان الجالية اليهودية في بغداد الراسخ ومثابرتها الجادة وسط صخب المدينة، وليومنا يقف كنيس مئير طويق كمنارة أمل واستمرارية، وملاذًا جغرافياً وتاريخيا تتناغم فيه أصداء الماضي مع وعدٍ كان يأمل بمستقبل نابض بالحياة.

تأثر الكنيس خلال اضطهاد اليهود في العراق وتضرر أيضًا خلال مناسبات متكررة من الاضطرابات والحروب. تم ترميمه في عام 1985 من قبل صدام حسين وتم توسيعه بشكل أكبر في عام 1988. لم يعد كنيس مئير طويق في بغداد قيد الاستخدام ففي عام 2003، حاولت ما تبقى من افراد الجالية اليهودية في البتاويين حماية الكنيس بعد أن دمرت هجمات إرهابية في إسطنبول كنيسًا آخر. إذ بعد غزو العراق عام 2003، كان الكنيس في خوف من استهدافه في الهجمات. اليوم، تقوم مجموعة صغيرة من اليهود، برفقة المسلمين، برعاية مبنى الكنيس.

12- مقام الحاخام يوسي الجليلي أو (الجليلية) في بغداد هناك شخصية تاريخية تُعرف باسم الحاخام يوسي (أو يوسف) الجليلي، وهو عالمٌ جليلٌ من القرن الثاني الميلادي، ويُعرف أيضًا باسم يوسي بن حلافته. ويبدو أن اسم “الجليلي” هو اسمٌ ربما يعود إلى أصله من منطقة الجليل في فلسطين.

وهناك اختلاف بين السكان المحليين إذ يُشير المسلمون إلى أن مقامًا في بغداد يعود لأحد أوليائهم، وهو الشيخ عبد القادر الكيلاني، بينما يقول اليهود إن هذا المقام يعود للحاخام يوسي الجليلي أو (الجليلية). ولا يزال هذا الأمر محل نزاع بين الطرفين رغم بقاء المقام مقدساً عند الطرفين.

13- مقام النبي دانيال - كركوك يقع مسجد النبي دانيال في كركوك، العراق. ويرتبط مقام النبي دانيال بمواقع متعددة في الشرق الأوسط وآسيا أشهرها يقع في سمرقند، أوزبكستان يُعتقد أن مرقد دانيال موجودًا فيه. ويقال بأن مقام المبنى الأصلي كان كنيسًا يهوديًا حُوِّل إلى كنيسة مسيحية. وتروي التقاليد المحلية أن الكنيسة حُوِّلت فيما بعد في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الى مسجد. ويعود تاريخ المبنى الحالي إلى بداية العصر التيموري، وجدده العثمانيون أيضًا.

ويُقال إن السلطات المحلية أهملت المسجد، كما انهارت بعض أجزاء منه. تبلغ المساحة الإجمالية للمسجد 400 متر مربع، وله قبتان زرقاوتان ومئذنة واحدة مصنوعة من الطوب ومزينة ببلاط القاشاني، ويعود تاريخها إلى العصر العثماني. كان اليهود يصعدون إلى قلعة مدينة كركوك التي يبلغ عمرها 4600 عام لطلب البركات في قبر النبي دانيال -الذي يُحتمل أنه مزور-، وهو الآن ضريح إسلامي مُزين بالرايات الخضراء. ويُعتقد أن القبر هو المكان الذي دُفن فيه النبي دانيال داخل قلعة كركوك القديمة.

لا تقتصر زيارة المسجد على المسلمين فحسب، بل يزوره أيضًا المسيحيون واليهود نظرًا لوجود قبور الأنبياء المبجَّلين في الديانات الثلاث. وكان المسجد يُستخدم للصلاة سابقاً، لكن هذا انتهى عندما طُلب هدم قلعة كركوك عام 1977 لإجبار السكان التركمان على النزوح او الهجرة. ومع ذلك، لم تتوقف زيارات المسجد وضريحه.

يُبجَّل دانيال من قِبل المسلمين واليهود والمسيحيين، مع أن المسيحيين وحدهم يعتبرونه نبيًا. يزوره مسيحيو ويهود العراق لتقديم احترامهم لقبور الأنبياء الأربعة المزعومة داخل المسجد، وهم (دانيال وشدرخ وميشاخ وعبد نغو). وأطلق على اخر ثلاثة أسماء (حنين وميخائيل وعُزير)، وهي في الأساس نسخ مُعرَّبة من أسمائهم العبرية (حننيا وميشائيل وعزريا). ولا يوجد سوى ثلاثة قبور موجودة في ضريح المسجد إذ أن قبر ميخائيل غير موجود على الإطلاق، وموقعه غير معروف داخل المسجد. وتُخطئ لافتة قبر عبد نغو/عزريا في تحديد هويته على أنه عزرا التوراتي، والمعروف أيضًا باسم العزير في التراث الإسلامي.

وحننيا يعتبر أحد أنبياء اليهود من الصف العالي، ويقع ضريحه في قلعة كركوك القديمة بجوار مقام النبي دانيال. والنبي حننيا (بالعبرية) يسمى حنينة (بالعربية)، أو شدرخ (بالكلدانية).

شدرخ وميشاخ وعبد نغو هي شخصيات من سفر دانيال في العهد القديم، اشتهروا بتحديهم لأمر الملك نبوخذ نصر بعبادة صنم ذهبي، وأُلقي بهم في أتون النار لرفضهم السجود له، لكن الله حفظهم بأعجوبة، إلى جانب شخصية رابعة بدت ككائن إلهي. ويُحتفى بهم لإيمانهم الراسخ وشجاعتهم في مواجهة الاضطهاد مما دفع هذا الحدث نبوخذ نصر إلى الاعتراف بقوة إلههم.

وهناك ادعاءات متعددة في مواقع أخرى، بما في ذلك بابل والعراق وسوريا، بناءً على التقاليد التاريخية والروايات التوراتية. كما تدّعي سوسة، إيران، ومدن في العراق ملكيته لمقبرته. وتُعتبر مدينة سوسة في إيران الموقع الأكثر قبولًا لقبر دانيال. ويرتبط مقام النبي دانيال بمواقع متعددة اخرى، لكن أشهرها يقع في سمرقند، أوزبكستان، ويُعد مقام سمرقند وجهة سياحية شهيرة، فهو يضم تابوتًا كبيرًا داخل ضريح، تحيط به قصص وأساطير حول أصوله ونمو رفاته المستمر، والضريح هو عبارة عن بناء ضخم يضم تابوتًا طويلًا، يُعتقد أنه يضم رفات دانيال.

ويشتهر المقام بأهميته الروحية وغموضه التاريخي، إذ تتضمن القصص المحيطة بمقبرة سمرقند اساطير تقول بأن جسد دانيال لا يزال ينمو لغاية الأن، مما يتطلب صنع تابوت طويل، وتقول الأسطورة الأخرى بأن تيمورلنك أحضر بقايا الرفات إلى هنا بعد فشله في غزو سوريا، معتقدًا أن روح دانيال هي روحه.

14- مقام بنيامين، ابن النبي يعقوب - ديالى يقع على إحدى قمم الجبال قرب قصر شيرين، على الحدود العراقية الإيرانية. يزوره أهالي القرى من قبيلة بنيامين، حيث يؤدون الصلوات ويقدمون القرابين ويُبجّلون بنيامين ويسمونه “ثمرة بنيامين”، أي الجد بنيامين أو بنيامين المقدس.

15- مقبرة الحبيبية اليهودية في بغداد تقع مقبرة الحبيبية اليهودية في العاصمة بغداد، بين نصب الشهيد الذي أقامه الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ومعقل الشيعة الشعبي مدينة الصدر. ولا يزال رجل مسلم مسن يعتني بالقبور في المقبرة، لكن الزوار نادرون. أُنشئت المقبرة في أوائل القرن العشرين وكانت المكان الرئيسي لدفن اليهود في المدينة، حيث دُفن فيه العديد من وجهاء اليهود المحليين.

على الرغم من أهمية المقابر في العديد من المجتمعات اليهودية، إلا أن شواهد القبور، على وجه الخصوص، كانت بمثابة نصوص بصرية ولغوية مهمة للمجتمعات اليهودية، إذ ضمنت الحفاظ على ذكريات أحبائهم من جيل إلى جيل وربطها بمكان معين عبر مسيرة الزمان.

وكما هو الحال والشواهد للقبور، فإن الذكريات المكتوبة للمتوفى، والمؤطرة برموز تراثية (مثل نجمة داود) وتعبيرات (مثل “”)، تشير إلى الهوية الثقافية الفريدة للمجتمع وتعكسها، وتوفر طريقة لرؤية كيف تتغير الأمور بعد الموت وبمرور الوقت، والأهمية الكامنة وراء هذه التغييرات.

تحتوي المقبرة على أكثر من 4000 قبر. وقد تم بناؤها عام 1975، كبديل للمقبرة اليهودية القديمة قرب كراج النهضة في مركز بغداد، إذ بعد توسع العاصمة، أصبحت المقبرة القديمة عائقًا أمام التمدد والتطور العمراني، فاتخذت السلطات عام 1975 قرارًا بنقل المقبرة خارج المدينة، حيث تبرع مناحيم دانيال بقطعة أرض كبيرة تبلغ مساحتها خمس دونمات لتكون مقبرة للطائفة الموسوية، بالإضافة إلى مبلغ مليون دينار لنقل جثث أبناء الطائفة من يهود العراق إلى المكان الجديد وبناء قبور جديدة لهم.

ولغاية عام 2003 كانت وزارة الأوقاف العراقية مسؤولة عن إدارة المقبرة. ولكن بعد حل الوزارة، انتقلت المسؤولية الكاملة إلى مكتب الطائفة اليهودية في شارع النهر، مثل دفع فواتير الماء والكهرباء، ورواتب العاملين في المقبرة بالإضافة إلى ترميم القبور وبلاطات وشواهد القبور، وجميع المتعلقات المادية الأخرى.

تُمثل بلاطات ولوحات القبور الشواهد المادية القليلة عن حياة المجتمع اليهودي في مختلف الأزمان، وحقيقة مؤلمة عما آل اليه مصير المجتمع اليهودي العراقي. ففي مكان منعزل في المقبرة نجد قبور عزرا ناجي زلخة وزوجته روان وعدد ممن أُعدموا معهما في ساحة التحرير عام 1969 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. كما ودُفنت في المقبرة طبيبة يهودية كانت مديرة مستشفى الواسطي للصدمات، واسمها فيوليت حنا في المقبرة الجديدة عام 2009. وفي مارس 2021، توفي في بغداد الدكتور ظافر فؤاد الياهو، الذي يُعتقد أنه آخر طبيب يهودي في العراق.

يزور بعض المسلمين، وخاصة النساء، المقبرة طلبًا لبركة رجل يُدعى (بليبل)، الذي يُقال إن نسبه يعود إلى النبي موسى، ويُشعلون الشموع ويمسحون قبره بالحناء والماء وغالبًا هن النساء العقيمات يأتون لطلب البركات وتسهيل الحمل والولادة.

لا حياة بلا ذكريات ولا ذكريات بلا حياة تأخذنا ذكريات الأضرحة اليهودية في رحلة زمنية من أيام بابل إلى العراق المعاصر، إذ تعود جذور اليهود في العراق إلى نحو 2600 عاما وفقًا للتقاليد التوراتية، فقد وصلوا عام 586 قبل الميلاد كأسرى للملك البابلي نبوخذ نصر الثاني بعد تدميره هيكل سليمان في القدس.

فمن عصور الرخاء إلى عصور الرقي والرقي، وصولًا إلى الظلم والهروب والرحيل عبر التاريخ والمواقع الدينية. إن الصورة التي انبثقت من ماضي بغداد في منتصف ستينيات القرن الماضي هي صورة التقارب والألفة والمصير المشترك بين أتباع مختلف ديانات المدينة.

خضعت بلاد ما بين النهرين لحكم الأتراك العثمانيين لأكثر من 400 عام، وكان ثلث سكان بغداد من اليهود. كانت مدينة الخلفاء، شهرزاد، وأرض جنة عدن، مكانًا ساحرًا عاش فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون جنبًا إلى جنب، حياة بسيطة وهادئة، تُحلب الأبقار على عتبات المنازل، ولا يُطلّ العالم الخارجي إلا من خلال فانوس سحري

عاش اليهود في المدن العراقية منذ أكثر من 2500 عام، في بابل وبغداد والموصل، وغيرها. كانت بغداد موطنًا لأكبر جالية يهودية في العراق، ربما منذ تأسيسها في القرن الثامن. بحلول عام 1908، بلغ عدد يهود بغداد حوالي 53,000 نسمة، أي ما يقارب ثلث إجمالي سكان بغداد، وسكنوا في أحياء عديدة، منها التوراة، وتحت التكية، وأبو سيفين، وسوق حنون. ورغم انخراط اليهود في السياسة المحلية، بدأت توترات جديدة تتصاعد بينهم وبين المسلمين، مما أدى إلى أعمال شغب معادية لليهود في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1908، وأجبرت الحرب العالمية الأولى العديد منهم على الفرار من المدينة.

شهد يهود العراق ولادة دولة جديدة (العراق) تحت إدارة البريطانيين، لكن كل شيء بدأ يتغير في ثلاثينيات القرن الماضي. فبعد الاستقلال، سقطت البلاد في أيدي المتعاطفين مع النازية، وبلغت ذروتها باستيلاء مؤيدي النازية على السلطة، مما دفع تشرشل إلى إحداث تغيير في النظام لضمان مصالح بريطانيا النفطية الحيوية في العراق.

في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تعرضت الجالية اليهودية للسرقة والقتل والتهجير. غادروا البلاد لسببين: أولًا، ظنوا أن انقلاب رشيد عالي الكًيلاني عام 1941 حدث بالتواطؤ مع النازيين. ثانيًا، واجه يهود العراق موجة غضب عارم في أعقاب الهجرة اليهودية العالمية إلى فلسطين لبناء دولة يهودية. هُجّر معظمهم بين عامي 1949-1950 بعد قيام دولة إسرائيل.

في عام 1948، بلغ عدد الجالية اليهودية في بغداد حوالي 77000 ومع ذلك، بدأ المجتمع اليهودي يخشى الحياة في بغداد بعد حوادث الفرهود، التي وقعت في الأول من يونيو عام 1941 وأسفرت عن مقتل 130 يهوديًا في بغداد وفقدان الملايين من أضرار لحقت بالممتلكات. استمرت مأساة الفرهود المروعة يومين، وكانت بمثابة انتكاسة كبيرة أخرى للشعب اليهودي، مما أدى إلى رحيل إحدى أقدم المجتمعات اليهودية في العراق إلى الأبد.

ألهمت مذبحة الفرهود نمو الصهيونية والشيوعية بين أقلية من اليهود في بغداد الذين شعروا بانفصال متزايد عن الدولة العراقية، وزادت التفجيرات التي وقعت طوال خمسينيات القرن الماضي من عزلة المجتمع اليهودي، وبحلول عام 1952 لم يبقَ في العراق سوى حوالي 6000 يهودي. بحلول عام 1951 غادر 96٪ منهم وتبع ذلك تقريبًا كل من بقي بعد عمليات الإعدام العلنية لـ”الجواسيس الإسرائيليين” عام 1969 على يد حزب البعث.

وتبع ذلك عقود من الصراع وعدم الاستقرار، مع حرب الثمانينيات بين إيران والعراق، وغزو الكويت، والحصار الدولي، والغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣، والعنف الذي تلاه، جميعها أكملت تآكل المجتمع اليهودي. لقد عانى المجتمع اليهودي المزيد من العنف في ظل نظام صدام حسين وبعده، وبحلول عام ٢٠٠٣ تم إغلاق آخر كنيس يهودي في بغداد.

في الواقع، لعقود بعد “التسقيط” (سحب الجنسية)، عبّر يهود العراق في كثير من الأحيان عن شعورهم بالإحباط من الخيانة من جانب كل من العراق وإسرائيل. وعبّرت عبارة “باعونا” - أي “باعونا” - عن شعور مرير بانعدام الوطنية وخيانة ذوي القربى، ما بين الخوف ما قبل المغادرة ومن الاضطهاد إذا ما بقوا في العراق إلى مواجهة مواقف استشراقية أوروبية-إسرائيلية بعد وصولهم الى اسرائيل. ولم يكن هذا الشعور بالغربة المزدوجة بعد “التسقيط” متوافقًا مع الرواية الرسمية لإنقاذ اليهود من مضطهديهم المسلمين الدائمين، ولكنه حوّل هجرة اليهود العراقيين إلى قصة كبش فداء يُضحى به على مذبح الصراع العربي-الإسرائيلي.

ومن عجائب الزمان وفي أعقاب نزوحهم من العراق وصدمة وصولهم إلى إسرائيل، عانى يهود العراق، إلى جانب يهود الشرق الأوسط عمومًا، من الإقصاء والرفض والتهميش من قبل اليهود الأوربيين، وشاع التعبير بينهم “في العراق كنا يهودًا، وفي إسرائيل نحن عرب”.

لقد وثّقنا في هذه المقالات جزءاً من تاريخ مكون اصيل سكن بلاد الرافدين وساهم في بناء العراق الحديث وتناولنا مراحل اليأس، والأسى، وفترة الصداقة، والتعايش. إذ تروي الأضرحة اليهودية قصة مجتمع يهودي رافديني متحضر ومتكامل في قلب شبه الجزيرة العربية الإسلامية، وتتحدث إلينا هذه الأحجار اليوم، وتقدم لنا نظرة ثاقبة على ثقافة وعادات وحياة مجتمع عريق جرفته التيارات العنيفة للصهيونية الحديثة والنازية الألمانية والقومية العربية. وتتيح لنا ذكريات هذه المعابد فهمًا أفضل لأهميتها بالنسبة للمجتمعات التي أسستها واستخدمتها على مر السنين، وكذلك لكيفية سعي المجتمعات اللاحقة إلى ترسيخ ذاكرتها وهويتها المشتركة بعد الهجرة المستمرة للأقليات خارج العراق. وللأسف، فإن الفوضى وتدمير مجتمع متناغم هو امتداد لمرض ديني مُعدٍ لا يزال ينتشر في العراق اليوم ويشمل السياسات المعقدة في الشرق الأوسط.

إن الجهود الدولية النادرة لإنقاذ البقايا القليلة من الأثريات في العراق لا تكفي للحفاظ على ما تبقى من ذكريات مجتمع يهودي كان مزدهراً في يوم من الأيام. وبينما يتم ترميم الكنوز التاريخية التي دمرها الجهاديون في العراق، فإن الجهود الدولية لإنقاذ التراث اليهودي لم تكن كافية بما في ذلك كنيس مئير طويق.

وهذه كلها دروس من فصول التأريخ الحديث لوطن مزقته عقود من الحرب والفساد والجماعات الدينية المسلحة التي تبتز كل ما تريد يا للأسف. ونأمل يوماً أن يصبح العراق والشرق الأوسط منطقةً تفيض بنور المحبة والسلام، وتنعم برحمة وبركة السماء.

المصادر: ويكيبيديا، “المزارات اليهودية في العراق” للدكتورة وسن حسين محيميد، ذكريات عدن لفيوليت شمش، يهود العراق (تاريخهم وأحوالهم وهجرتهم) ليعقوب يوسف كوريا، الشوق إلى تاريخ يهود العراق، “نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق”، نُشر عام 1922، ليوسف رزق الله غنيمة، تاريخ يهود العراق في القرن العشرين لمير بصري، بغداد الأمس - صناعة يهودي عربي لساسون سوميخ، صور ليفي كلانسي، روبرت فيلبوت، بريتانيكا - جينيفر مورتوف.