نكهة التأريخ

مائدة ومذاق بلاد ما بين النهرين

بقلم د عضيد ميري

قبل ظهور كتب الطبخ، وقبل السكر والطماطم، وحتى قبل فكرة «طبق الحلوى»، كان سكان بلاد ما بين النهرين القديمة يتفننون في أعداد وطهي انواع الطعام ببراعة ملحوظة. ففي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات، والتي تُعرف غالبًا بمهد الحضارة، لم يكن الطعام مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة، بل كان طقسًا وهوية وقربانًا للآلهة.

وتعود جذور المطبخ الرافديني وابداعاته إلى أكثر من 10000 عام، ويعتبر من أقدم تقاليد الطعام الموثقة في العالم. فقد سجّلت الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري وصفات ومكونات ومخزونات مطبخية تكشف عن ثقافة طعام مبتكرة وراقية. ولا تزال العديد من النكهات الموصوفة في تلك الألواح حاضرة على الموائد العراقية اليوم مثل الكليجة والمسكوف والمدكًوكًة والكباب وغيرها.

الحضارات وفن اعداد الطعام كانت بلاد ما بين النهرين العليا من أوائل الأماكن على وجه الأرض التي استأنس فيها الإنسان المحاصيل والحيوانات حيث تعلمت هذه الحضارة الأولى فن الطبخ واستعمال المواد المحلية المتوفرة في جغرافية المنطقة. فقد زُرع فيها الشعير والقمح، إلى جانب تربية الأغنام والماعز والأبقار والدواجن. وشكل التمر والعدس والبصل والثوم والعنب والخضراوات أساس النظام الغذائي في بلاد ما بين النهرين، وهي مكونات لا تزال أساسية في مطابخ بلاد النهرين والشرق الأوسط.

وخبزت هذه المجتمعات القديمة الخبزالرقيق وخبز التنور، وصنعت البيرة، وطبخت انواع الحساء قبل وقت طويل من ظهور ممارسات مماثلة في أماكن أخرى. وتُظهر السجلات الأثرية وجبات غذائية شملت الأسماك من الأنهار، واللحوم من الحيوانات المستأنسة، ومنتجات الألبان، وتنوعًا مذهلاً من الخضروات والأعشاب والآملاح والتوابل.

كما كان للطعام دلالة دينية مهمة، إذ كانت المعابد تحتوي على مطابخ وافران وتُعد وجبات فاخرة للآلهة، وكان الأوائل يعتقدون بأن الألهة يتناولون الطعام عدة مرات في اليوم، وكانت أجود قطع اللحم، وأكثر التوابل عطرًا، وأشهى الحلويات تُخصص للقرابين الإلهية.

وصفات مكتوبة على ألواح طينية تعود أقدم الوصفات المعروفة في العالم إلى حوالي عام 2200 قبل الميلاد، وإحداها تصف طريقة تحضير حساء مصنوع من البيرة والخوخ المجفف، وأخرى تصف طريقة تخمير البيرة نفسها من قبل السومريون وتحتوي الألواح البابلية، المحفوظة الآن في جامعة ييل، على قوائم ووصفات لعشرات الأطباق، بما في ذلك حساء لحم الماعز والحمام والضأن المُنكّه بالثوم والبصل واللبن الرائب. وتضم معجمًا سومريًا أكاديًا للطهي يعود تاريخه إلى حوالي عام 1900 قبل الميلاد، يحتوي على أكثر من 800 نوع من الأطعمة والمشروبات، من بينها 300 نوع من الخبز وأكثر من 100 نوع من الحساء. وتُصوّر بعض النقوش الآشورية اللحوم المشوية؛ والنقانق المحشوة في أمعاء الحيوانات، والأطعمة المشوية على أسياخ والتي تُشبه تماما عملية شوي الكباب كما نعهده اليوم. وترسم هذه السجلات واللوحات الطينية صورةً للوفرة والابتكار والإنتشار، بسبب الأراضي الخصبة ووفرة المياه وأنظمة الري المعقدة ووجود شبكات التجارة واسعة النطاق بين الحضارات المتجاورة.

الكليجة: الحلوى الوطنية للعراق لا تكتمل أي مناسبة عراقية دون حضور الكليجة وسط المائدة، وتعتبر هذه الحلوى المقرمشة العطرية ذات المذاق الحلو اللطيف الحلوى الوطنية لأهل العراق وتُعدّ جزءًا لا يتجزأ من التراث وحفلات الزفاف والأعياد الدينية والتجمعات العائلية في جميع أنحاء العراق. ويفتخر في اعدادها وتقديمها للضيوف والزوار المسلمون والمسيحيون والكلدان والآشوريون والأكراد على حد سواء.

تعود أصول الكليجة إلى حلوى «قولوبو» القديمة، وهي معجنات بلاد ما بين النهرين القديمة التي كانت تُحضّر لمهرجانات الربيع تكريمًا للإلهة عشتار، وكانت هذه الحلوى المبكرة، المصنوعة من التمر أو الزبيب والمخبوزة في أفران طينية، ترمز إلى موسم التجديد والازدهار والتواصل المجتمعي.

تُحشى الكليجة الحديثة عادةً بالتمر المتبل أو الجوز المعطر بالهيل وماء الورد، وتُشكّل على شكل هلال أو دوائر تشبيها بآلهة القمر والشمس وتُقدّم مع الشاي العراقي (السنكًين) القوي، وهي بذلك تُعدّ غذاءً وطنياً شهياً ورمزًا ثقافيًا يربط الأسر المعاصرة بالتقاليد القديمة.

المسكًوف: نكهة شبوط الأنهار والأهوار إذا كانت الكليجة تُمثل الاحتفال، فإن المسكًوف يُمثل المكان. ويُعتبر المسكًوف، الذي يُطلق عليه غالبًا الطبق الوطني للعراق، وهو نوع من سمك الشبوط النهري المشوي ببطء على نار مكشوفة، ويُعد الإجتماع حول مائدته على ضفاف تقليديًا كلاسيكياً ومن طقوس اطعمة نهر دجلة على امتداد شارع ابو نواس في مدينة بغداد.

عملية طبخ المسكًوف يحتاج معرفة بالآسماك وخبرة مطعمية متميزة بالشوي البطيء، إذ يُشق السمك من المنتصف، ويُتبل، ويُثبت عموديًا باسياخ بالقرب من نار الحطب، ليمتص الدخان والحرارة على مدى عدة ساعات، وتُنتج هذه الطريقة التي تعود إلى العصور السومرية، طبقًا ذا نكهة شهية وسمكة مشوية طرية مُدخنة ومطعمة بدخان القصب والحطب ويرتبط هذا التحضير ارتباطًا وثيقًا بثقافة الأنهار والأهوار في عراق بلاد النهرين.

ولا يُمكن إعداد وتناول المسكًوف على عجل، فطلبه وتحضيره ُيعدّ التزامًا اجتماعيًا، وهو وجبة مُعدة للجلسات وللمشاركة والنقاش والاستمتاع به، وبهذه الطريقة، لا يحافظ المسكًوف على اصوله ووصفتة فحسب، بل على أسلوب حياة مجتمعية ومناسبة احتفالية خاصة.

ميرسو: أقدم حلوى في العالم قبل وقت طويل من ظهور السكر واستعماله في الشرق الأوسط ، كان سكان بلاد ما بين النهرين يُشبعون رغبتهم في تناول الحلويات بتمر النخيل المنتشر في جنوب بلاد النهرين، ومنه نشأت حلوى (ميرسو) التي تعد أقدم حلوى موثقة في اللوحات الطينية ويعود تاريخها إلى ما يقرب من 4000 عام.

كانت حلوى ميرسو تُصنع عن طريق هرس التمر وتحويله إلى عجينة، ثم خلطه بالسمسم والمكسرات والزبدة. وكانت تُشكّل على هيئة كرات صغيرة، وتُقدّم في المآدب الملكية والاحتفالات الدينية. ولأنها كانت مُحلّاة بالكامل بسكريات التمر فقد كانت ترمز إلى الخصوبة والوفرة والبركة الإلهية. واليوم، ما زالت هذه الحلوى موجودة في شكلها الحديث، وهي حلوى المدقوقة (المدكًوكًة) ، وهي حلوى تمر عراقية تقليدية تُحضّر عن طريق الهرس الجماعي، وبطقوس ومشاركات عائلية لا تقل أهمية عن طعم الحلوى نفسها.

الكباب: كبابو النار واللهب كلمة كباب مشتقة من الكلمة الأكادية «كبابو»، التي تعني «الشواء»، وتُظهر النقوش الآثارية القديمة جنودًا يشوون اللحم على أسياخ فوق نار مكشوفة، ومنقلة حجرية وهي تقنية صمدت لآلاف السنين وما زالت تستخدم ليومنا هذا.

ولا يزال الكباب العراقي الذي يُصنع غالبًا من لحم الخروف أو خليط مع لحم البقر أو الضأن او الجمل ويُقدم مع خبز التنورالمسطح واللبن والبصل وفيًا لأصوله، وتؤكد رحلته العالمية، من تركيا إلى الهند وما بعدها، على التأثير الدائم لبلاد ما بين النهرين على اطباق المطبخ العالمي.

إرثٌ رافديني طهويٌّ حيّ لا يُمثل المطبخ العراقي مجرد بقايا من الماضي، بل هو تقليد حيٌّ يتوارثه الأجيال في المطابخ والأسواق والتجمعات العائلية. فكل طبق، سواء كان حلوًا أو مالحًا، بسيطًا أو مُتقنًا، يروي قصةً من الإبداع والصمود والتلاحم المجتمعي في بلاد النهرين، وإن تذوق هذه الأطعمة هو تذوق للتاريخ ذاته ، فمن مطابخ المعابد القديمة إلى البيوت العراقية والكلدانية الحديثة، يستمر المطبخ الرافديني حيًا معنا، لقمةً بعد لقمة.

المراجع: جوليا ناجور، المطبخ البابلي (1979، 1981)؛ سميرة ياقو جولاغ، كتاب الطبخ الشرق أوسطي الثمين (1998)؛ أميرة دعبول، أطايب من مطبخ أميرة (2020)؛ جون لوتون ولورا كيلي؛ أرامكو وورلد (2011)؛ شانون كوثان؛ سي إن إن؛ موسوعة بريتانيكا؛ ويكيبيديا.