الكلدان في البصرة
حنّان قيّا
المطران مار حبيب النوفلي، الزائر الرسولي في أوروبا، عن التاريخ والهوية
ضمن تغطيتنا لتاريخ شعبنا الكلداني ومناطق تواجده، كان لي شرف محاورة سيادة المطران مار حبيب هرمز النوفلي، راعي أبرشية الكلدان في البصرة والجنوب، والزائر الرسولي إلى أوروبا، الذي استعرض خلال اللقاء تاريخ الوجود الكلداني في مدينة البصرة، وأبعاده الروحية والثقافية والاجتماعية، والتحديات التي يواجهها اليوم.
يؤكد سيادته أن الوجود الكلداني في البصرة والجنوب يُعد علامة راسخة على حضور الإيمان المسيحي والثقافة الكلدانية في هذه المنطقة من العراق، ولا يقتصر على مدينة البصرة وحدها، بل يمتد إلى العمارة حيث توجد خورنة فاعلة، وإلى الناصرية التي تحتضن كنيسة، إضافة إلى عدد محدود من العائلات المنتشرة في مدن أخرى. ويرى المطران أن هذا الوجود لا يحمل بعدًا كنسيًا فحسب، بل يشكل أيضًا علامة رجاء وانفتاح، إذ ينظر إليه المسلمون والصابئة باحترام، ويعتبرون الكنائس جزءًا من نسيجهم الروحي والثقافي، ومكانًا يلجأون إليه في أوقات الصلاة، ولا سيما إلى مزارات السيدة مريم العذراء، فضلًا عن المشاركة في الندوات والمعارض والنشاطات العامة، إلى جانب حضور كنائس شقيقة أخرى في المدينة.
وعند الحديث عن الجذور التاريخية، يوضح سيادته أن هوية الأجداد كانت قوية وراسخة بصورة خاصة بين القرنين الرابع والثاني عشر، ثم عرفت ازدهارًا جديدًا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. غير أن هذا المسار تأثر بتحولات تاريخية كبرى شهدتها المنطقة منذ القرن السابع وما تلاه، مع دخول المسلمين إلى المنطقة بوصفه تحولًا تاريخيًا مهمًا في سياق ذلك العصر، ثم لاحقًا مع سقوط الدولة العباسية وما رافق تلك المراحل من اضطرابات سياسية واجتماعية، الأمر الذي انعكس على أوضاع المسيحية وحضورها في بعض الفترات، من دون أن يلغي عمقها أو استمراريتها التاريخية.
وعلى مستوى العائلات، عرفت البصرة عددًا من العائلات الكلدانية العريقة التي كان لها حضور اجتماعي واقتصادي بارز عبر العقود، من أبرزها بيت البرجوني، وبيت جوري مايكل، وبيت الساعور، وبيت كجه جي، وبيت عربو، وبيت زيباري، ويُعد بيت أوحيد من أقدم هذه العائلات وجودًا في المدينة.
أما على الصعيد الرعوي والاجتماعي، فتضطلع الكنيسة الكلدانية في البصرة بدور فاعل من خلال مبادرات خيرية واجتماعية متنوعة، من بينها سوق أخوية السامري الصالح المسكونية الخيري الذي يُقام سنويًا خلال موسم عيد الميلاد المجيد، إلى جانب القداديس والخدمات الكنسية المنتظمة. كما تعمل الأبرشية على الحفاظ على التراث وتوثيق تاريخ المسيحيين في الجنوب، ولا سيما عبر إنشاء متحف أبرشية البصرة والجنوب الكلدانية، الذي يشكّل مساحة حية لحفظ الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة.
وفي هذا السياق التوثيقي، يبرز أيضًا الدور العلمي والبحثي لسيادة المطران مار حبيب النوفلي، الذي له، مع جزيل الاحترام والتقدير، عدد من المؤلفات المهمة، يُعد أبرزها كتاب «المسيحية في جنوب وادي الرافدين»، والذي يتضمن معلومات وافية وموثقة عن تاريخ المسيحيين والكلدان في البصرة والجنوب، ويُعد مرجعًا أساسًا للباحثين والمهتمين بتاريخ المنطقة.
وقد تأثر المجتمع الكلداني في البصرة بشكل بالغ بموجات الهجرة المتعاقبة، إذ هاجرت نحو 85% من العائلات بعد عام 1980 نتيجة الحرب مع إيران، ثم سنوات الحصار، وبعدها أحداث عام 2003 وما أعقبها من عنف طائفي. وأدى ذلك إلى تراجع الأمل بعودة نظام سياسي عادل يضمن السلام والاستقرار، مع شعور شريحة واسعة من المسيحيين بالتهميش وغياب العدالة الكاملة في المواطنة.
وعلى مستوى العلاقات المجتمعية، يؤكد سيادته أن الكلدان في البصرة يتمتعون بعلاقات جيدة مع مختلف المكونات الدينية والعرقية، ويحظون بالاحترام والتقدير العام. إلا أن الواقع الاجتماعي شهد تغيرات ملحوظة مع تزايد أعداد الوافدين من بعض المناطق الريفية الجنوبية، ممن لم تتح لهم سابقًا فرصة الاحتكاك بالمسيحيين أو التعرف على المسيحية عن قرب، نتيجة محدودية التعليم وقلة الاطلاع. ويُقدَّر أن هذه الفئات تشكل اليوم نحو ربع سكان البصرة، وهو واقع ينسحب بدرجات متفاوتة على مدن أخرى أيضًا. وتبقى المبادرات المنظمة في معظمها كنسية، حيث أُسس فرع للرابطة الكلدانية عمل لعدة سنوات قبل أن يتوقف لقلة الالتزام، في حين لا يوجد فرع حزبي كلداني، باستثناء بعض المنظمات المسيحية المدعومة من الكنيسة في أوروبا وأخرى محلية مثل منظمة حمورابي.
وتظهر ملامح الهوية الكلدانية اليوم من خلال عيش الثقافة الكلدانية بمختلف أبعادها، من اللغة والأزياء والأطعمة والفنون والآداب، إلى القيم والعادات الاجتماعية. غير أن قلة العدد حرمت الكلدان من إنشاء نادٍ خاص بهم، فباتت تجمعاتهم تقتصر على القداديس والمناسبات الكنسية. كما أدى تشتتهم وسط محيط أوسع إلى تأثر بعضهم، من دون وعي، بعادات وأفكار دخيلة. ورغم ذلك، تمكنت الأبرشية من تحقيق خطوات مهمة، أبرزها افتتاح متحف الأبرشية عام 2014، ثم المدرسة الابتدائية ومعهد التثقيف عام 2017، ودار الرحمة الإلهية، إضافة إلى إنشاء قاعتين للمناسبات. وعلى الصعيد الطقسي، جرى إعداد ورسامة أكثر من عشرة شمامسة بعد تعليمهم اللغة الكلدانية.
وفي تقييمه لواقع العائلة الكلدانية، يرى سيادته أن فرص التعليم والعمل متاحة إلى حد كبير، ولا تكاد تُسجل بطالة، إلا أن أزمة السكن تبقى التحدي الأبرز. فقد وفّرت الكنيسة سكنًا شبه مجاني لعشرات العائلات، في حين يمتلك نحو ثلث العائلات بيوتًا خاصة، ويعتمد نحو 60% على الإيجار المرتفع، ما أدى إلى تراجع الزواج وقلة الإنجاب. ولهذا، لا يُتوقع ازدياد عدد العائلات بشكل ملحوظ، مع استمرار الكنيسة في رعايتها للمسيحيين وغيرهم، بما في ذلك الوافدون.
ويؤكد المطران أن الأبرشية تولي أهمية كبيرة للأرشفة والتوثيق، إذ أصدرت كتابًا شاملًا عن تاريخ المسيحية في جنوب ما بين النهرين عام 2015، أُعيدت طباعته عام 2021، كما جرى حفظ سجلات العمادات والوفيات والزواجات رقميًا منذ عام 1880 وحتى اليوم، بما يغطي مختلف جوانب الحياة الكلدانية التاريخية والكنسية والثقافية والاجتماعية.
وحول متطلبات استمرار الحضور الكلداني، يختصرها سيادته بحاجتين أساسيتين: توفير السكن للشباب لتشجيع الزواج، وتعزيز ثقافة القناعة والتدبير الاقتصادي، مشيرًا إلى أن الظروف الراهنة هي نتاج عقود طويلة من الحروب والتشدد الديني.
أما المعالم الكنسية، فيذكر أن أقدم كنيسة باقية هي كنيسة مار توما التي شُيدت عام 1880 في البصرة القديمة، تلتها الكاتدرائية الكبرى التي بُنيت عام 1930 بشفاعة السيدة العذراء. وتضم كل كنيسة مزارًا خاصًا بالسيدة العذراء، يزوره كثير من أبناء المدينة للصلاة، وقد سُجلت عشرون حالة شفاء تُنسب إلى شفاعتها، ويعمل سيادته حاليًا على إعداد كتيب خاص بمجد السيدة العذراء. كما تضم الأبرشية روضة منذ 34 سنة، ومدرسة ابتدائية منذ 2017 تخرج منها أكثر من ألف تلميذ، ومعهد تثقيف مسيحي يدرس فيه طلاب مسلمون لثلاث سنوات ويحصلون على دبلوم في العلوم الدينية، فضلًا عن نشاطات ثقافية وتعريفية تُلقى منذ أكثر من 11 سنة لطلبة الجامعات والمعاهد والثانويات.
وفي الختام، لا بد من الإشادة بالدور الأبوي والراعوي الذي يضطلع به سيادة المطران مار حبيب النوفلي، وما يبذله من جهود حثيثة في رعاية أبناء الكنيسة والحفاظ على حضورهم وهويتهم في ظروف دقيقة وصعبة. كما يبرز التفاني الكبير للآباء الكهنة، الأب عماد البنا والأب آرام پانو، الذين يخدمون تحت رعايته بأمانة وصبر، رغم قلة عدد المؤمنين وتعدد التحديات، من ضعف الوعي المجتمعي إلى مظاهر التشدد وضغوط الحياة اليومية. ومع ذلك، تبقى خدمتهم شاهدًا حيًا على الإيمان والالتزام، وتجسيدًا صادقًا لرسالة الكنيسة في الثبات والشهادة والمحبة.